IMLebanon

لبنان بين فرنسا والسعودية

 

تشهد الوضعيّة اللبنانيّة، في هذه المرحلة، تحولات ومبادرات دوليّة، أوروبيّة وعربيّة، تعمل للعودة بلبنان الى مكانه الطبيعيّ، ودوره الطبيعي، دولة مؤسّسة في الأمم المتحدة والجامعة العربيّة، دولة تدافع عن حق شعبها وحقوق الإنسان، وتعبّر بالوعي والفكر والكلمة عن حقوق الشعوب العربيّة الشقيقة. ومثل هذا الدور الجيو-استراتيجي، أعطى للبنان مكانةً ورسالةً في أن يكون المتكلّم باسم الاخوة العرب والمعبّر عن امنياتهم وأهدافهم في العديد من المنابر الدوليّة، وبالمقابل افسح ذلك في المجال للعرب، وخاصة لدول الخليج وعلى رأسها المملكة العربيّة السعوديّة، كي تحيط لبنان بالعناية والدّعم المعنويّ والماديّ. وهكذا شهد موطن الأرز حقبات بيضاء في تاريخه الحديث ولقّب بصدق وفخر بأنه «سويسرا الشرق» ومركز العلوم والاستشفاء والإصطياف.

 

كان قيام الثورة الايرانيّة واسقاط نظام صدام حسين السني في العراق، في نهاية القرن العشرين، بدايةً لتحولات جيو- سياسية طاولت مختلف دول المشرق العربي وشبه الجزيرة العربي، انطلاقاً من سعي ايران لإقامة الشرق الأوسط الاسلامي (الشيعي الايراني) ومركزيته دولة ايران وأدواته القوى الشيعيّة المتواجدة في المنطقة وبينها الطائفة الشيعيّة في لبنان. وفيها نشأت حركة شيعيّة إسلاميّة تحت شعار «حزب الله».

 

اولاً: فرنسا – لبنان والكيانيّة:

 

1- إن العلاقات الخاصة بين فرنسا ولبنان ليست أمراً جديداً ولا طارئاً. إنها حقيقة تاريخيّة تمتد على مئات السنين وتكلّلت بإعلان لبنان الكبير عام 1920 بنشاط القوى الاستقلالية اللبنانيّة، في مقدّمتها وعلى رأسها المثلث الرحمة البطريرك الياس الحويّك.

 

2- ومذاك الى اليوم.. وغداً تبقى فرنسا معنيّة بمصير لبنان الدولة. وأبعد وأهم من ذلك لبنان الكيان. ذلك ان الصراع كان ولا يزال يدور حول محور أساسي وهو الكيانيّة اللبنانيّة ومدى مشروعيّتها الجغرافيّة والتاريخيّة، ومدى مساهمة فرنسا الفاعلة في تحقيق هذه الكيانيّة.

 

3- كانت فرنسا، ولا تزال، تعتبر هذه الكيانيّة نقطة نفوذها ودورها في الشرق الأوسط. ولذا فإن حرصها على وطن الأرز هو في الوقت عينه، جزء من حرصها على مصالحها الاستراتيجيّة في المنطقة. وهذا الحرص يتمثَّل ويتفعَّل بحسب السلطة القائمة في باريس ورؤيتها لدور بلادها ومصالحها في المنطقة. ولبنان هو العنصر الدائم في هذه الرؤية!

 

4- ومن دون العودة الى أمثلة من التاريخ القديم، فإنّ التاريخ الحديث يقدّم لنا نموذجاً مع السلطة الحاليّة برئاسة السيد ماكرون حول جملة مبادئ وحوافز وأهداف أطلقها أمام القيادات اللبنانيّة وبموافقتها في قصر الصنوبر، واعتبر طرحه آنذلك بمثابة وثيقة وطنيّة، على اللبنانيين جميع اللبنانيين، استيعابها والعمل بها والتزامها في المرحلة القادمة باعتبارها طريق الخروج من الوضع المعقّد والمقفل الذي يعيش فيه اللبنانيون، وكان مبدأ الشمولية في المقاربة بما في ذلك الحوار مع «حزب الله» امتداداً لسياسة فرنسا الإقليميّة وعلاقتها بالحوار مع جمهورية ايران الاسلاميّة!

 

5- ظلت طروحات الرئيس ماكرون لإصلاح الوضعيّة اللبنانيّة بمثابة حبر على ورق مع ما فيها من أفكار تلامس جوهر المسألة اللبنانيّة، لأنها اصطدمت بجدار سميك يمنع من تنفيذها وانجاحها هو جدار «حزب الله» وهيمنته على الوضعيّة اللبنانيّة، وصارت السياسة الفرنسية «الماكرونية» أمام مأزق المثل الفرنسي القائل: (réconcilier l›inconciliable) أي التوفيق بين ما ليس متوافقاً! وهو أمر صعب جداً إذا لم نقل مستحيلاً، وذلك أن استراتيجيّة إيران الاقليميّة تشكّل، بفعل ديناميّة ونشاط الحركات الشيعية، وعلى رأسها «حزب الله»، جزءاً بل قاعدة من استراتيجية إيران داخل العالم الاسلامي وفي العالم أجمع. بمعنى ٱخر، المسألة عند ايران واستطراداً «حزب الله»، ليست كما ظنها الفرنسيون مجرد تعديل في ميزان القوى، بل هي تغيير في مصير هذه القوى المتواجهة على ضفتي الخليج، وفي المنطقة، وفي العالم.

 

6- إنطلاقاً من هذا المعطى، يمكن القول، إن المبادرة الفرنسية تجاه لبنان كانت بمثابة مدخل الى الحل وليست هي الحل. والنتائج التي أعقبتها الى الآن تؤكّد صحة هذا الاستنتاج. ذلك ان القضيّة اللبنانيّة ليست مجرّد نوايا حسنة، بل هي قرارات استراتيجيّة جذريّة ومصيريّة وهو خيار يتجنّبه المصلحون!

 

ثانياً: السعودية – لبنان والعروبيّة:

 

1- منذ النصف الأول من القرن العشرين، تشدد الأوساط السعوديّة على مختلف مستوياتها على الطبيعة العربية للبنان:

 

– إثنولوجيا: إذ إن معظم اللبنانيين يعودون إلى أصول عربيّة.

 

– لغوياً: إن اللبنانيين هم سادة البلاغة العربية مدرسةً وتأليفاً وشعراً وخطابة.

 

– مؤسساتياً: إذ إنهم من مؤسسي جامعة الدول العربية.

 

– ثقافياً: إذ هم في أساس النهضة العربية بفضل كتّابهم ومفكّريهم وناشري الصحف والمجلات في مختلف أصقاع العالم العربي والعالم.

 

2- هذه المعطيات الحضاريّة انعكست على علاقات السعودية بلبنان كونه بلداً عربيّاً نموذجياً للتقدّم والنهضة. وهكذا قامت السعودية بدعم هذا الوطن على مختلف الأصعدة لأن في نجاحه وازدهاره، نجاح وازدهار العالم العربي كلّه. وقابل لبنان هذا الموقف بالشكر والامتنان معتبراً السعودية الأخ الأكبر للبنان والداعم الأول والأهمّ له في مساره السياسي داخلياً وإقليمياً ودولياً. وكان وطن الأرز يستفيد من المكانة المميّزة التي تحتلّها السعودية بين دول العالم، للعمل على معالجة مشاكله وقضاياه الصعبة والمعقّدة سواء مع اخوانه أم مع اسرائيل أم في مشاكل الداخل اللبناني.

 

3- في كل هذه الموضوعات والقضايا، كانت المملكة العربيّة السعوديّة تبذل وساطتها الأخويّة الحسنة لحل كافة الأمور والصعوبات وحماية الدولة اللبنانيّة، من كل افتئات عليها على يد القريبين والبعيدين. وتعمل على دعم لبنان مادياً ليتمكّن من الإستمرار والتغلّب على مصائبه ومشاكله الاقتصاديّة، بل أكثر من ذلك فقد عملت على وضع اتفاق الطائف وهو وثيقة تأسيسية في القضيّة اللبنانيّة وهي الآن تتفاهم مع فرنسا على طريقة دعم وإحياء المؤسسات المدنية اللبنانيّة، على اعتبار أن المؤسسة الرسمية اي السلطة الحاكمة واقعة تحت النفوذ الإيراني من خلال «حزب الله».

 

4- تجدر الإشارة إلى سوء الفهم أو التفاهم بين بعض قيادات أهل السنة في لبنان وسلطات المملكة، الأمر الذي انعكس سلباً على وضعية الجماعة السنيّة في لبنان وبالفعل ذاته على السلطة اللبنانية، وهو أمر نرى من الأفضل عدم الدخول فيه حفاظاً على المصالح اللبنانيّة والسعوديّة في آن. وما نرجوه ونأمله هو عودة العلاقات بين الدولتين والشعبين الى كامل عزّها وايجابيتها وازدهارها في أقرب وقت ممكن.

 

في الخلاصة، نود أن نشير إلى أمر أساسي في العلاقات اللبنانيّة – السعوديّة وهو المتعلق بنظرة السعوديّة الى عروبية لبنان وليس الى عروبويّته أي Arabité et non pas Arabisme، وهو ما يجعل لبنان قوّة فاعلة في قلب العروبة والعالم العربي دون ان يفقد هويته الدّولاتية.

 

وفي هذا الفارق الأساسي بين الهويّة والإنتماء تكمن قوّة العلاقة بين الشعبين اللبناني والسعودي في الماضي والحاضر والمستقبل.