IMLebanon

منهجية تغيير هويّة لبنان

 

الأوطان لا تُقاس بالجغرافيا فقط، وإن كان ترسيم الحدود شرطاً أساسياً ضامناً لإستقلالية البلاد، والأوطان لا تُختصر بالمؤسسات فقط، وإن كان لا وجود للدولة من دونها، والأوطان لا تُنشأ بالقوانين والدساتير فقط، وإن كان لا انتظام لشؤون الناس والمؤسسات والدولة إلا بالإلتزام بها، بل الأوطان حقيقةٌ هي كلّ هذه الركائز معكوسة من الهوية الوطنية، التي بدورها تنعكس من الهوية الثقافية والإرثية والوجودية للشعب المُكوِّن للوطن.

 

ولذلك، فالتباينات كبيرة بين الأوطـان، فمنهـا ما تتمتّع بالتجانس الداخلي المُريح أكثر من أوطانٍ أخرى، ومنها ما تنعم بالإستقرار الإجتماعي أكثر من غيرها من الأوطان بفضل تركيبتها الثقافية المُتشابهة، كما أنّ هناك أوطاناً تتمايز بالتفاعل الثقافي الناتج عن تعدًديتها الإجتماعية والثقافية الإثنية أو الطائفية، ولكنّها تُعاني من لاإستقرار دائم، ولذا فهي بحاجةٍ الى توازناتٍ دقيقة وعقدٍ وطني يُنظّم الإختلافات والتباينات التي تبرز بشكل طبيعي بين أطرافها.

 

وكما تعدّد الهويات الوطنية، فالغزوات أيضاً تتنوّع بأشكالها، فمنها ما يندرج في فئة الغزوات العسكرية ومنها في فئة الغزوات ذات الطابع الثقافي والوجودي. فالغزوات العسكرية إحتلالية، وأمدها قد يطول ولكنّها حتماً تزول، أمّا الإحتلالات الثقافية فخطرها تدرّجي وطويل الأمد ويهدف لتغيير هوية الوطن وطابع أهله، وتعتمد من أجل ذلك خطواتٍ سياسية وتثقيفية وإعلامية وتسويقية وترغيبية وأيضاً تخضيعية وترهيبية وتشويهية.

 

الغزوات الإستراتجية هي المشاريع المصيرية غير المرحلية، حيث تتدخّل في كافة التفاصيل الدقيقة للوطن الواقع تحت سيطرتها والخطط الموضوعة للوطن البديل، وتعمل على تحوير الرموز الوطنية وخلق البدائل عنها.

 

وفي هذا السياق نشهد في لبنان حالياً محاولات فاضحة ووقحة لضرب رموز بلد الأرز، ولمحو تاريخه وإرثه وصفحات النضال لشهدائه، كما نشهد محاولات لتجهيل المُرتكب بحقّ الوطن من أصحاب المشاريع التغييرية الوهمية والسلطوية الفسادية، إنّها فعلاً تحوّلات عميقة في النظرة الى كافة القطاعات الحياتية والركائز الأساسية للوطن.

 

لم تكن تصريحات مسؤولي «حزب الله» في السنوات الأخيرة بريئة، ففكره الإستراتيجي لا يعمل بردّات فعل إنفعالية، ومساراته مرتبطة بعضها ببعض، وقد وصل تقييمه للوضع اللبناني أخيراً الى أنّه أصبح في مرحلة «القبض»، أي حشر وطن الأرز عنوةً عن شعبه داخل مشروع نشر الثورة الخمينية، التي انطلقت في أواخر سبعينات القرن الماضي من طهران لتملأ المنطقة والإقليم.

 

يعتدّ «الحرس الثوري» الذراع العسكرية لهذه الثورة بالمثال اللبناني، الأفضل من بين كل الأذرعة المنتشرة في المنطقة العربية، ولذلك إنتقل هذا المثال الناجح الى مرحلة البوح بهدفيته الحقيقية لتغيير هوية لبنان ودوره الإقليمي واصطفافه المحوري، وتحوّلت خطابات ومواقف مسؤولي «حزب الله» الى الوضوح الكامل بعدم احترام التاريخ اللبناني والشراكة الوطنية، معتمدةً منهجية غير تقليدية لتغيير الهوية، وباتت خطوات «الحزب» تتجاوز حتى مطالب ونيات حليفه «التيار الوطني الحرّ» الذي شكّل في السنوات الماضية الغطاء المسيحي والرسمي المُفيد جداً لإستمرار مشروع الملالي على الأراضي اللبنانية، وتطور موقف «حزب الله» الى حدّ تجاهل طروحات التيار وممارسة الضغوطات عليه للرضوخ للحسابات الاستراتيجية لمشروعه، وإن كان «حزب الله» ما زال يعتبر الغطاء المسيحي الذي أمّنته له الحالة العونية أساسياً لترييحه في مساره اللبناني، فإنه انتقل الى الضغط على التيار للتقدّم خطوةٍ الى الأمام للإندماج في الإصطفاف الحقيقي غـير المُلتبس في محـور الثورة الإيرانية وأهدافها البعيدة، فـ»حزب الله» أمام الاوضاع المُستجدّة في المنطقة والمواجهات الإقليمية والدولية التي دخل اليها المجتمع الدولي أصبح بحاجةٍ للقناعات الواضحة بمحوره ولم يعد بحاجة لتحالفات تبادل المصالح، إنّه اليوم يسعى لتحالفات استراتيجية صادقة وليس لتفاهمات تكتيكية مرحلية مبنية على الحصص والحسابات الصغيرة.

 

الخطر الحقيقي الناتج عن هذه التحوّلات الكبيرة يكمن في أنّ «التيار» بدأ يفقد دوره الغطائي لدى «حزب الله» ومكانته التوازنية لدى المسيحيين، فـ»التيار» أمام مفرق طرق، فإمّا إحتواؤه من قبل «الحزب» مُجدّداً مع عدم مراعاته إلا شكّلياً بالرغم ممّا إرتُكب بحقه، وهذا الإحتواء سيُؤدّي الى تبعية شاملة للحزب، مُشابهة لتبعية الأحزاب اليسارية والعروبية والقومية للسلاح الفلسطيني والنظام السوري سابقاً، وإمّا تخلّي «الحزب» عنه بشكل كامل ليُصبح تياراً معزولاً.

 

ويعتقد التيار واهماً أنّه يستطيع التخاطب مع «حزب الله» وسيّده بالطريقة ذاتها التي يُخاطب بها الزعماء اللبنانيين الآخرين في كل مرّة يسعى فيها للضغط عليهم لنيل حصصه السلطوية، غافلاً عنه أنّ هذا الحزب يعتبر سيّده مُقدّساً وقضيته ثابتة لا تعديل فيها من أجل حساباتٍ داخلية، وأنّ المسّ بالقدسية لا يمرّ بسلامة وبهدوء مهما طال الزمن.

 

منهجية تغيير هوية لبنان مستمرّة من خلال الخطوات الثابتة التي خطاها «حزب الله»، ومنهجية الدفاع عن هوية وطن الأرز ثابتة أيضاً منذ سنواتٍ ودهورٍ طويلة ولا تراجع عنها وثمنها الآلاف من الشهداء الذين يُحتفل بذكراهم سنوياً، فعلى التياريين الذين تمتّعوا بالسلطة المُهداة لهم من قبل حزبٍ لم يُعر يوماً أهمية لا للدولة ولا للشراكة، حسم أمرهم للإختيار بين الإحتواء المُذلّ والإلغائي لهويتهم الإجتماعية والثقافية وبين الحفاظ على الوجود، وما بين هذا وذاك، فهل مَن لم يحسم أمره من التيارات والأفرقاء القدامى والجدد ما زال يتلهّى في ساحات القشور والفروع، أعن خوف، أو عن عدم معرفة وإدراك، أو عن تعامل مع منهجية تغيير الهوية؟؟؟