IMLebanon

لبنان: استقلال المذاهب المتنافرة

إذا كان الاستقلال وليد إصرار مصالح لبنانية ظرفية، أريد لها أن تكون نقطة انطلاق إلى ما هو من طبيعة مقيمة، فإن الوقوف أمام تاريخ إعلان الاستقلال، واستعادة بعض مضامين هذا الأخير يشكلان، تمسكاً بتوق لبناني موضوعي ومستقبلي، إلى أن يكون «للجمهورية اللبنانية» حضور يخالف ما عرفه اللبنانيون من أشكال حضور هذه الجمهورية.

يواجه سكان لبنان، لكي لا نقول مواطنيه، مسألة الاختلاف المقيم في ماضيهم وحاضرهم حول بديهياتهم، التي في غيابها لا يمكن الحديث عن ذاكرة مشتركة، أو التفوه بعبارات مستقبلية جامعة. لقد بدا أن الخلاف هو الأصل، بشهادة كل الوقائع الميدانية التي عاشها اللبنانيون، لذلك فإن الاتفاق حول الأولويات وتعريفاتها ومدلولاتها، ما زال هو الفرع العابر غير الراسخ، في اليوميات الوطنية. هذا الخلاف، الذي لم يصر ماضياً، يظهر الآن في صيغة سياسات وشعارات تجعل المساكنة إقامة تجاور قلق، بين المجموعات الأهلية المختلفة، وتجعل العجز عن ابتكار الما فوق طوائفي هو السائد، ومما يفاقم مخاطر التردي السياسي العام، بل الكياني الشامل، هو تعذر بروز وصياغة مصالح وطنية جامعة، ينهض بأعباء توليدها ورعاية ولادتها، جمع شعبي وازن وذو تدخل حيوي وفاعل ومؤثر، في مجمل الحركة السياسية اليومية. هذا الوزن الغائب، ما زال في غيب الطموحات، التي لا سبيل لكل الاستقلاليين غير سبيل دق أبوابها على نحوٍ دائم.

يواجه الاستقلال، أو ما تبقى من العناصر التي أرستها مسيرته القصيرة، مخاطر انبعاث الفئويات التي باتت تقارب «الكيانات» المستقلة بذاتها. تقيم هذه الأخيرة علاقة تضاد مع البنية التي لم تندمج فيها اندماجاً كاملاً، وتعيد تظهير مدى القسر الذي انطوى عليه إعلان لبنان الكبير. منطق الفئويات الضمني يقارب الثأر من عملية سوقها إلى الكيان، ذلك المخلوق الذي اعتبرته تعدياً على هوياتها، وعلى خلفيات اندماجها، ضمن عمق جغرافي وسياسي وديني، اعتبرته ملاذها الآمن، ومطرح تفاعل ذاتياتها الفردية والجمعية، يتجلى الثأر الآن في صيغة الارتباطات بالخارج وفق خطاب تبريرات متناسلة، وإذا كان الارتباط بالخارج أمراً مزمناً ومعروفاً في الممارسة اللبنانية، فإن الجديد فيه هو الإعلان الجريء عنه، والحرص على مد الجسور معه وتبرير الدفاع عنه، وتقديم كل مسوِّغات الاستناد إليه. تقدَّم الإعلان عن خارجية الفرقاء المحليين، مع تراجع داخليتهم، وعندما ارتفع منسوب تهديد المقيمين في الداخل على افتراق، سعى كل مقيم إلى التحصن بخارج ما، يحمي داخليته ويعزز من حضورها، ويحمي مناطق نفوذها، ويمدها بأسباب مدّ هذا النفوذ. لقد لامس الذهاب إلى الخارج حدود استتباع الداخل، مما انعكس في صيغة تحطيم لأواصر اللحمة الوطنية، وبات سبباً أساسياً في إعاقة التئام تشققاتها. صيغة الاستتباع، أو التبعية، تقوم على تعريف كل فئة لمصالحها تعريفاً فردانياً، ومن ثم التحصن بالفئة والاستعانة بأشباهها، دفاعاً عن هذا التعريف. هذا يجعل من مقولة الداخل – الخارج أمراً ملموساً يمكن قياسه، وتطوراً عملانياً يمكن رصده، لكن ما يظل صعب الاستشراف أو خارج الحسابات، هو توقع انعطافاته ومقادير المخاطر المترتبة على هذه الانعطافات، أما السبب الأساسي، فكامن في ترحيل قرار الداخل إلى الخارج، وعندما يحصل ذلك ينتقل أهل البلاد إلى مقاعد المتلقين، طالما أن زمام المبادرة خارج أراضيهم. حاضنة الارتباطات، التي تشكل أساس الاختلال الداخلي المزمن، هي الطائفية، وميزان الحصص الرجراج بين الطوائف، هو الحائل دون الوصول إلى الاستقرار العادي، ومسألة حقوق النقض المتبادلة بين المجموعات الدينية والمذهبية، هي التي تعطي كل مسار التشكيلة الداخلية صفة المؤقت، الذي لا ينتج أكثر من تعايش قلق، على فوهة لا بديهيات قلقة. ومن كل ذلك، لا يبقى للاستقلال، الذي مداه رقعة جغرافية كاملة، ومسرح اجتماعي عام، وبناء سياسي ثقافي اقتصادي شامل، لا يبقى له من كل ذلك، سوى الجغرافيا والتضاريس والعلم والنشيد، الذي يستمع إليه كل حشد وقوفاً، ثم لا يلبث أن يذهب إلى حيثيات نشيده.

في ظل الاستقلال، الذي تعثر مساره، وفي مرآة اللحظة الراهنة، ليس غريباً القول أن ما يُعمل على تأسيسه، من قبل الفئويات الأهلية، هو قيام حالة غلبة تطيح بمعادلة اللاغالب واللامغلوب. هذا يعني تجاوز الصيغة الاستقلالية الأولى التي صاغت معادلة «اللاممر واللامستقر»، والتي لحظت مسألة التوازن بين الطوائف، بشكل مؤقت، مما تكشف لاحقاً عن استحالة التوازن وعن ديمومة ما قيل عنه أنه آني وظرفي.

لا تستوي المسؤوليات عن الخلاصة التي وصل إليها الميثاق اللبناني الاستقلالي، لكن لا يجب أن نسقط من الحساب، أن الفروع الطائفية والمذهبية اللبنانية تبادلت مواقع التهديد للصيغة الاستقلالية، وبعضها سلَّم عصا التلاعب بالدستور للبعض الآخر، وبدا أن الجميع في سباق بدل الوصول إلى نقطة «اللاعودة» عمّا كان اللبنانيون من طموح استقلالي حقيقي. لم تفلح المسيحية السياسية في الحفاظ على إنجازها الكياني الأول، وعجزت عن خطب ود الإسلام السياسي، بما يجعله شريكاً وطنياً وفق كل مقتضيات المشاركة. هذا في الماضي، أما اليوم، وتحديداً منذ اتفاق الطائف، فإن الإسلام السياسي يبتكر تباعاً، بل يوقظ كل حيثيات تعمق الجفاء الكياني، وهو إذ يستيقظ على «هويته المستعادة»، فإنما يوقظ كل كوابيس الشقاق، ضمن منطقة خرجت دواخلها على ذواتها، وباشرت التنكيل بكل آخر يقيم خارج كل ذات.