IMLebanon

هل يرث “المصرف البريدي” ليبان بوست؟

مصير “بريد لبنان”: مفاوضات على التجديد بشروط جديدة

جانبٌ من إيقاف مزاريب الهدر أجبر الدولة على إيلاء ملف البريد اللبناني كل الإهتمام وإعادة النظر بوضع شركة “ليبان بوست” العالق. فقد انتهى العقد معها في أيلول 2019 ورفض مجلس الوزراء حينها طلب تمديده لفترة 12 سنة إضافية، مقرراً إرجاء البت في الملف حتى آخر أيارالحالي على أن تتم تسوية الحسابات العالقة، الأمر الذي جعل الجانب المالي يشكل واجهة الصراع التي تخفي وراءها أوجهاً أخرى. ومع الشهر في أيامه الأخيرة، ما هو مصير قطاع البريد في لبنان؟

منذ تموز 1998 استلمت “ليبان بوست” قطاع البريد تحت مسمى “إعادة بناء وتأهيل قطاع البريد في لبنان” وبعد أكثر من 22 سنة، أقرّ مجلس الوزراء بند التمديد لـ”ليبان بوست” لثمانية أشهر تحت نفس المسمى، ألم يتم تأهيل القطاع حتى الساعة؟… ها هي أيام قليلة تفصلنا عن إعادة فتح الملف مع حكومة الأخصائيين، والشعب ينتظر ما ستؤول إليه الأمور في وضعية قطاع البريد. فهل سيُسترد قطاع البريد كما حصل مع قطاع الإتصالات أم سيعاد استلامه من دون استبعاد تجديد الحصرية بشروط جديدة ومعدّلة، أم ستًطلق مناقصة عامة يُفتح فيها باب المنافسة واحتمال الحصول على عقود أفضل؟
مستحقات عالقة

19 سنة مضت وما زالت المستحقات عالقة بين شركة “ليبان بوست” ووزارة الإتصالات. فمنذ انسحاب شركة “كندا بوست” من الشركة وبيع حصصها لمجموعتي سرادار وميقاتي مطلع سنة 2001 توقفت المقاصة بين الشركة والدولة وبدأت تتخبط العلاقة بين الطرفين. ولسبب ما، مع غياب الطرف الأجنبي رفضت الدولة اللبنانية إجراء المقاصة مع “بريد لبنان” ولا احتساب الفروقات بين ما لها من مستحقات ثمن الخدمات التي تقدمها إلى الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والبلديات من جهة، وما عليها من دفع لحصة الدولة من معاملاتها ككل من جهة أخرى. كما تفادى المعنيون في وزارة المالية التوقيع على جداول الحسابات على امتداد تلك السنوات.

بعدها تفاوض وزيرا الإتصالات السابقان، جمال الجراح ومحمد شقير مع مجلس إدارة “ليبان بوست” واتفقا على عدة بنود تناولت قيمة بدلات ايجار المكاتب وتسوية الحسابات وتخفيض رأس المال ورفع حصة الدولة من مجمل العائدات البريدية.

ووفقاً لمدققي الحسابات المعينين من قبل وزارة الإتصالات ومدققي الحسابات المعينين من قبل ليبان بوست من شركتي التدقيق العالمية ارنست اند يونغ وسمعان غلام وشركاهم، علمت “نداء الوطن” أنه وعن 15 سنة، بلغ ما للدولة في ذمة الشركة 961 مليون ليرة لبنانية فقط، أي أقل من مليار ليرة وهو ما يقارب 220 ألف دولار فقط على سعر الدولار الحالي وهو مبلغ زهيد جداً بخاصة أنه ناتج عن مقاصة مبدئية لمدة طويلة جداً مقارنة بالمبلغ الضئيل، بين ما هو مترتب على الشركة للخزينة بقيمة 30.428 مليار ليرة، وبين ما هو مستحق للشركة على الوزارات والإدارات الرسمية بقيمة 29.467 مليار ليرة ذلك حتى سنة 2015 ومن دون أن تشمل الحسابات المحتسبة قيمة “الضرائب، والرسوم، واشتراكات الضمان” المستحقة على “ليبان بوست” وفي نهاية الشهر الحالي سيتم الإتفاق على حسابات 2016-2019 ضمناً مع القيم التي لم تحتسب سابقاً.
مشاكل العقد

من أهم مشاكل العقد أنه أعطى للشركة المستثمرة في لبنان قطاع البريد على طبق من ذهب من دون أن يلحظ حصة الدولة بشكل مدروس، بخاصة في ما يتعلق بعدم توقيع عقود ايجارات للمكاتب الخاصة بوزارة الإتصالات والتي استخدمتها الشركة وخسرت خلالها الدولة بدلات الإستعمال التي كانت شبه رمزية وتزيد كل ثلاث سنوات بمعدل 10% فقط وأن تقوم الشركة بتأهيل المباني والمكاتب وتحسم فوق استغلالها لمكاتب الدولة كلفة الأعمال من بدلات الاستعمال. باختصار، كانت الشركة ستحل بشكل قانوني بعض المرافق العامة الخاضعة للقانون الإداري وبموافقة الدولة.

أما المشكلة الثانية، فهي أنه لم يكن للدولة أي حصّة من الخدمات غير البريدية، فبحسب العقد المبرم، حُصرت حصّة الدولة من إيرادات الشركة على أساس 5% في السنة الأولى من مجمل الدخل، وترتفع بشكل تصاعدي وصولاً إلى 40% في السنة الـ 12، كما إن حصّة الدولة من خدمة البريد السريع تبدأ بـ20% وترتفع إلى 50% دون وجود أي بند يحدد حصة الدولة من الخدمات غير البريدية البعيدة عن الخدمة الأساسية التي فازت بها الشركة في العقد، من تأمين للخدمات البريدية لغاية وزن لا يتعدى كيلوغرامين داخل الأراضي اللبنانية وبين لبنان والخارج.

وفي سياق المشاكل مع الشركة، سجل المواطنون شكاوى لا تحصى عن فقدان الطرود المرسلة وهدر الوقت وإهمال غير مبرر وأهمها “فقدان محاضر مخالفات السير والسرعة، بحيث يصدر ضبط مخالفة سرعة زائدة بإسم المواطن ويتم تحويله من قبل الجهاز الأمني المختص إلى شركة “ليبان بوست” الذي يفترض أن يتصل بالمواطن لإبلاغه وتحديد موعد معه لتسليمه المحضر. ولكن ما يحصل فعلياً مع غالبية المواطنين هو أنهم لا يتسلمون محاضرهم ويحوّل المحضر تلقائياً وقانوناً الى المحكمة الجزائية وترتفع الغرامة المالية من الف ليرة لبنانية إلى مليون ليرة لبنانية وتتقاضى فيه “ليبان بوست” رسم 10 آلاف ل.ل. على كل محضر.
فضيحة التبرع الإلزامي

كذلك، تكمن المشكلة الرابعة في الخدمات الاحتكارية التي تقدّمها ليبان بوست ولا يمكن إجراؤها في الإدارة الرسمية مباشرة مثل الإقامة للعاملات في الخدمة المنزلية، ورسوم الجامعة اللبنانية. وعليه سُجلت فضيحة كبيرة عبارة عن إستيفاء شركة “ليبان بوست” مبالغ إضافية من الزبائن من دون موافقتهم وأهمها ما قامت به الشركة من إضافة 500 ليرة على رسوم التسجيل الخاصة بالجامعة اللبنانية، تبرعاً “اجبارياً” لجمعية “حماية” التي تُعنى بقضايا استغلال الطفل والعنف الأسري. وهو ما اعتبر مبلغاً صغيراً نسبياً على الفاتورة إلا أن العدد الهائل من رسوم التسجيل يجعل منها مبالغ كبيرة وصلت إلى حد 500 ألف ليرة باليوم.

أما تبرير الشركة لهذه الفضيحة فأقر ضمناً بمسؤوليتها عن استيفاء مبالغ مالية بطريقة ملتوية وأنهم استوفوا مبالغ لا تدخل ضمن الرسوم المحدّدة للخدمات التي تقدّمها الشركة، بذريعة أن “ما حصل هو أن إدارة الشركة أصدرت تعليمات واضحة لموظفيها بإصدار فواتير تتضمن التبرّع بقيمة 500 ليرة لجمعية “حماية” مع وجوب سؤال الزبون عن التبرّع بصورة اختيارية ولكن ما حصل كان تقصيراً أو إهمالاً أو “نسياناً” من بعض الموظفين الذين خالفوا تعليمات الإدارة”

والجدير بالذكر أن هذا السلوك لم يقتصر على طلاب الجامعة اللبنانية بل امتد على مر السنوات العشرين الماضية ليشمل كل الزبائن. فقد عمدت الشركة إلى تقديم خدمات إضافية تبيّن أن الزبائن يدفعون ثمنها من دون سؤالهم المسبق وموافقتهم الشرعية. نذكر منها خدمة “الديليفري بلاس” التي ارتفعت كلفتها إلى ثلاثة آلاف ليرة، وخدمة الرسائل النصيّة، التي بلغت ألف ليرة، وخدمة التذكير بألفي ليرة، بالإضافة إلى خدمة “كومبو”، التي تكلّف ثلاثة آلاف ليرة.
الإحتكار بحجة الحصرية

ومن ضمن الإشكاليات ايضاً، اعتراض شركة “ليبان بوست” على عدم اعطائها “الحصرية الكاملة” لتوزيع البريد محلياً فوزارة الإتصالات لم تقو على فرض الحصرية المحلية بشركة بريد لبنان، وكان لشركات شحن أخرى حرية توزيع البريد محلياً كآرامكس ودي اتش أل وغيرهما خلافاً لأحكام الحصر البريدي، إذ كانت الشركة تسعى لاحتكار السوق بريدياً. ولكن على رغم اعتراضاتها المتكررة على ذلك، تفاوضت الشركة مع وزارة الإتصالات ومددت عقدها الذي انتهي فعلياً سنة 2010 من 12 سنة إلى 20 سنة كما وقعت على ثلاثة تعديلات أولها في آب 1999 الذي حدد فيه سقف تقاسم الإيرادات يتراوح ما بين مليون و8.2 ملايين دولار سنوياً، يتوقف فيها التقاسم فوق هذا الرقم. كما نصّ على أن تسدد الشركة مبلغ مليون دولار سنوياً للدولة لقاء استعمال مركز بيروت للفرز في مطار بيروت الدولي وأن تسدّد الشركة مبلغاً رمزياً وهو “عشرون سنتاً” مقابل استعمال القسم العائد للبريد من مبنى رياض الصلح والذي يعد فضيحة دامت لسنوات. أما التعديل الثاني الذي طال العقد فكان في آب 2000 وفيه فُرض على الشركات البريدية المنافسة لليبان بوست محلياً تسديد 50 سنتاً عن كل بريد مقطوع لشركة ليبان بوست مقابل ما سمّي “خدمات الإشراف والمراقبة على نقل مواد المراسلات بالمواكبة الدولية”.

إلى ذلك، أبرم التعديل الثالث بعد تفرد ميقاتي وسرادار في الشركة، وتحديداً في حزيران 2002 ليفرض شروطاً جديدة على الشركات البريدية المنافسة لشركة “ليبان بوست” وإخضاعهم لرسم يساوي الحد الأدنى للطابع البريدي يضاف إليه رسم يساوي ثلاثة أضعاف الطابع البريدي مقابل نفس خدمة المراقبة والإشراف السابقة. بالمقابل، فرض على شركة “ليبان بوست” استثمار مبلغ 10 ملايين دولار كحد أدنى كل ثلاث سنوات على أن تكون حصّة الدولة من الإيرادات على أساس خمسة شطور تبدأ بـ 5% على إيرادات بقيمة 20 مليون دولار، وتنتهي بنسبة 35% على إيرادات بقيمة تفوق 35 مليون دولار. وفي حال تجاوزت “إيرادات الخدمات غير البريدية” نسبة الـ 35% من مجموع الإيرادات تخضع الزيادة لمشاركة الدولة في الأرباح وفقاً لثلاثة شطور تبدأ بـ5% على الشطر الأول حتى 20 مليون دولار، و10% على الشطر الثاني لغاية 25 مليون دولار، و15% على الشطر الثالث لغاية 30 مليون دولار.

واللافت في الأمر، أنه بعد انسحاب شركة “كندا بوست” وبيع أسهمها لمجموعتي سرادار وميقاتي، اللتين تملكان تأثيراً على الدولة ابرم التعديل الثالث وبدأت حملة “الإحتكار” و”أكل الأخضر واليابس” وبقدرة قادر، تفرّدت الشركة بدور الوسيط البريدي “الحصري” لنقل واستلام وتوزيع 10 ملايين معاملة رسمية سنوياً مع زيادة في الأسعار بصورة دورية. وصارت الشركة مسؤولة من دون منافس عن معاملات وزارة التربية، التصاريح المالية، جوازات السفر، إجازات العمل، الإفادات العقارية، تراخيص حفر الآبار وتجديدها، الجريدة الرسمية، معاملات التنظيم المدني، إخراجات القيد، معاملات الأملاك المبنية، السجلات العدلية، خدمة العلم مع الجيش اللبناني، فواتير الهاتف الثابت والخلوي، ميكانيك السيارات، تسجيل السيارات والتصريحات الضريبية المقدرة بالمليارات. أما حصة خزينة الدولة من كل ذلك “فتات خبز” وقيم لا تُذكر ناهيك عن إصدار الطوابع البريدية التكريمية.

تواصل الإحتكار لمدة 10 سنوات، بعدها علت أصوات الإعلام على هدر الأموال الفاضح والوقح، فعمل مجلس الوزراء سنة 2012 على “ترقيع الوضع” وفتح الباب أمام وزارة المال للتعاقد مع شركات ومؤسسات لتحصيل الضرائب والرسوم التي تتولى أمرها مديرية المالية العامة واهباً وزارة المال الحق بالتعاقد مع شركات أخرى تقدم للوزارة خدمات تحصيل الضرائب والرسوم على ألا يقل رأس مال الشركة المختارة عن 5 مليارات ليرة، وتسجيلها في السجل التجاري، وتقديم كفالة مصرفية بقيمة مليار ليرة، وألا يقل عدد مستخدميها عن مئة موظف مسجلين في الضمان الاجتماعي، ولكن مع استثناء المصارف وليبان بوست من هذه الشروط. فكان هذا المرسوم شبه صوري لإسكات الرأي العام.
ومع تراجع الأحوال الاقتصادية في البلاد وظهور خدمات التصريح الضريبي الالكتروني وخسارة الجزء الأهم من سوق التصاريح الضريبية وتزايد المنافسة قرر النائب نجيب ميقاتي بيعها إلى مجموعة سرادار. وأشارت مصادر لـ”نداء الوطن” أنه من المستبعد استرداد القطاع حالياً أو إطلاق مناقصة جديدة لاستلام بريد لبنان، وأن “هناك حديثاً عن مفاوضات حالية مع المستثمر اللبناني الفار من العدالة اليابانية إلى ربوع لبنان “كارلوس غصن” لقيادة 40% من أسهم المستثمرين وتمثيلهم والتحدث باسمهم في شركة ليبان بوست، مع الإبقاء على حصة “مجموعة ماريو سرادار هولدينغ” وهي 51% إلى 9% من الأسهم لرئيس مجلس الإدارة الحالي خليل داود واحتمالية تحويل الشركة إلى ما يطلق عليه “المصرف البريدي” الذي يقدم “خدمات مصرفية بريدية” ويمنح منتجات وخدمات مصرفية منخفضة التكلفة بالنسبة إلى المستهلك والتي يمكن أن تتراوح من صرف الشيكات ودفع الفواتير وحسابات التوفير إلى القروض الصغيرة وإعادة جدولة آلية ربح الدولة وزيادة حصتها بنسبة عالية تضم الخدمات البريدية وغير البريدية والمصرفية البريدية والزامها باستثمار مبلغ كبير يتضمن تطوير الأصول الثابتة وغير الثابتة، واقتراح ألية محاسبة مختلفة تفادياً لما حدث سابقاً”.
وهنا نتساءل على أية أسس تجرى هذه المفاوضات، ففي آب 2019 طلبت هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل افادتها بمعلومات معينة حتى يتسنى لها إبداء الإستشارة المطلوبة التي تتناول الرأي في طلب وزارة الإتصالات الموافقة على التمديد لشركة ليبان بوست لفترة عشرين سنة بلا جدوى!