IMLebanon

14 آذار: صحّ النوم

               

قدر لهذا البلد المنكوب، أن يلملم ذاته وأن ينطلق من جراحه وآلامه بعد جريمة اغتيال شهيد الوطن الرئيس رفيق الحريري، وكأنما سحر ساحر قلب أوضاعه رأساً على عقب، فإذا بهذا الوطن الذي شاء قدره ومقدراته، أن يتشعب إلى ثمانية عشر طائفة ومذهب، وإلى تفرقات شتّى على صعيد تركيبته الإجتماعية والمناطقية وتوجهاته السياسية والقومية، ومنذ حيازته على استقلاله في العام 1943، وهو يسعى إلى إزالة ما أمكن من سحنة الفرقة والإختلاف في تركيبة أبنائه الذين جُمعوا في هذه البقعة من الأرض بصورة مركبة، قدّر لها دون شك، أن تكون مختبرا لتلاقي الأديان والمذاهب إلى حد اعتبرها الكثيرون فيه وفي خارجه مختبرا أعطى للعالم دفعا حضاريا رائدا ومتميزا بأبنائه، علما وفكرا وأدبا وفنا، ولكن الأيام وظروف المنطقة لم تساعد في هضم مراحل الإستقرار التي عايشها لبنان منذ الإستقلال، فطاولتها نشأة إسرائيل وعدائيتها له ومنافستها لتطوره الحضاري والإقتصادي كما طاولتها مرحلة التواجد الفلسطيني المسلح الذي رفع على الأرض اللبنانية، راية: تحرير فلسطين يمر بمدينة جونية، كما طاولتها بشكل خاص، مرحلة الوصاية السورية التي أفرزت في لبنان جملة من التناقضات والنزاعات المسلحة والإمساك بمقاليد البلاد جملة وتفصيلا وحكمت وتحكمت بالفرض والقوة وانتهاج أسلوب الإغتيالات المسلحة وصولا في ذلك إلى رؤوس القيادات اللبنانية وما برز منها مناهضا لأسلوب الوصاية والتحكم، وفرض الإنصياع القسري على اللبنانيين الذين صحوا ذات يوم مشؤوم على حدث لعله الأخطر في تاريخهم الحديث، وتمثّل بعملية الإغتيال الآثمة التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بما أطلق عليه تسمية جريمة العصر التي ما لبثت أن أخرجت وجود النظام السوري من لبنان بجيشه وسلاحه وطموحاته إلى متابعة الإمساك بالعنق اللبناني، وأطلقت إلى الوجود في الوقت نفسه مليونية التواجد الشعبي الذي نفض عن ذاته كل خلافاته وتناقضاته فانطلقت جموعه في الرابع عشر من آذار يدا واحدة وجمعا موحدا وصيحات متوحدة وواعدة بإشراقة ما للبنان جديد ومتجدد، واستمرت الأوضاع مشرقة على هذا المنوال إلى أن تبين أن وجود النظام السوري في لبنان كان له ورثة محليون أمسكوا ببعض مكامنه وساروا ما أمكنهم على خطاه، واستجد بين الصفوف الوطنية التي وحدتها جريمة العصر انشقاق بعض طلائع الصف المسيحي بقيادة الجنرال عون وتحالفه مع حزب الله وتوقيعه اتفاقية معه حول جملة من المبادىء الإستراتيجية المتماشية مع مسيرة الحزب والمطلّة على الساحة السياسية بشكل مستجد، وكان من نتائج هذا التطور أن استمر لبنان مدة عامين ونصف دون رئيس للجمهورية، الأمر الذي أدى إلى جملة من المستجدات والنتائج كان من أهمها، انتخاب الجنرال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية وفقاً للظروف والأوضاع المعروفة وكان من نتائجها كذلك، عودة الرئيس سعد الحريري إلى تولّي منصب رئاسة مجلس الوزراء، ومن نتائجها أيضا وأيضا، تلك الإنتخابات النيابية التي أجريت وفقا لقانون إنتخابي جديد حافل بالثغرات والغايات التي أفلح حزب الله في ضغوطاته لفرضها قانونا إنتخابيا جديدا قلب الموازين والتوازنات النيابية وكان منطلقا لمحاولات طمس سائر موازين الحكم والسلطة في البلاد، وصولا في ذلك إلى ما نشهده في هذه الايام بصدد تأليف حكومة جديدة، حتى إذا ما حُلت جميع العقد التي حالت دون تأليفها أشهرا عدة اذا بنا نفاجأ يوما بعد يوم بشروط مختلقة ومستجدة وبأرانب اشتراطية يُخرجها الحزب من خوابيه وقد تبين للجميع بأنها شروط مستحيلة التطبيق، الواحد منها يلي الآخر، تستهدف من ضمن ما تستهدف منع لبنان من أن تكون له حكومة، أما السبب، ليبطل الإستغراب والعجب، فيتمثل في ما نشهده اليوم من محاولات حثيثة لإعادة النظام السوري إلى مسيرة الأحداث في لبنان، والشواهد على ذلك كثيرة، ولنا في ما يدور حول القمة الإقتصادية العربية التي سنعقد في لبنان والخلافات المختلقة الدائرة حولها، والرغبة الملحة لدى البعض بدعوة الرئيس الأسد لحضورها رغم أن قرار دعوته عائد لجامعة الدول العربية وليس للحكومة اللبنانية، دون أن ننسى محاولات دس الفتنة في قلب الطوائف على نحو ما نشهده في هذه الأيام من محاولات بث الفرقة والفتن في قلب كل طائفة وكل مذهب توصلا إلى هدف يهيأ له بكل تخابث وعناية وهو إطلاق، الأرنب الأكبر الذي يُعدّونه لهذا الوطن: تغيير النظام ومواثيقه وميثاقيته.

كنا قد بدأنا بالتطرق إلى ذلك التوحد الوطني الذي أُسمِيَ تكتل الرابع عشر من آذار والذي أعقب جريمة العصر، أين هو الآن وقد أصبح مع الأسف الشديد جملة من الكتل، المتفرقة بل والمتشاكسة.

صحيح أن معظم أركان 14 آذار يذكرون تكتلهم بالخير وكأنه فعل ماض فاته الحاضر والمستقبل، ويؤكدون أن روحه ما زالت قائمة وحيّة، ولكن هذه الحياة أصبحت في الواقع في خبر كان، كل الأحداث الخطيرة التي يتضاعف تهديدها للكيان اللبناني بأسره يوماً بعد يوم كل هذه المخاطر الطارىء بعضها والمشغول معظمها بعناية واتقان، وكل هذه الشراك والمطبات التي تنصب للجميع وفي ضوء نهارات يكللها الظلام، كلَّها، لم تفلح حتى الآن مع الأسف في إعادة بعضٍ من الحياة الفاعلة إلى جسم 14 آذار، ومن يقول لنا إن هذا الوضع طبيعي وليست له بواعث وأسباب خلافية، فليستغفر ربه على هذا الخطأ الجسيم، هذه الغفوة التي يسبح أركان 14 آذار السابق والمنتهية صلاحيته مع الأسف، هي العار الخطير الذي ألقى بالوطن في غياهب هذه الحالة المؤسفة، هذه الغفوة غير المبررة التي أضاعت أهم الآمال بإعادة الوطن إلى ضفة الحياة والأمل المستقبلي المشرق.

لئن كان وضعنا القائم مجرد غفوة: صحّ النوم.

ولئن كان ذوباناً وتلاشياً: لا يكون لنا إلاّ طلب الرحمة الإلهية لأنفسنا، ولسلامة الوطن أرضاً وشعباً ومؤسسات.