IMLebanon

“أم الصبي” والنواب الـ13

 

راجت في زمن 14 آذار مقولة “أم الصبي” وجوهرها تراجع هذا الفريق أمام فريق 8 آذار حرصاً على الدولة وتمسكاً بالدستور وحفاظاً على الاستقرار، وقد أدّت بالمحصّلة إلى القضم التدريجي الذي يمارسه الفريق الثاني على حساب مشروع الدولة للفريق الأول.

أظهرت الوقائع المتصلة بمرحلة الصراع بين 8 و 14 آذار انّ المقاربة التي شكلت قناعة للفريق الثاني بأنّ الفريق الأول يعمل عن سابق تصور وتصميم على زعزعة الاستقرار بهدف الإطاحة باتفاق الطائف تمهيداً لمؤتمر تأسيسي غير صحيحة، لأن انعقاد اي مؤتمر من هذا القبيل، لو حصل، لن يخرج باتفاق لبناني من دون موافقة كل القوى السياسية التي باستطاعتها، بكل بساطة، رفض اي بند يمسّ بسيادة لبنان ودور الدولة.

 

فهذا الوهم الذي عاشته بعض قوى 14 آذار في غير محله، ولو أرادت لما وافقت على اتفاق الدوحة الذي تحفّظت عليه “القوات اللبنانية” فقط، فلا اتفاق بالقوة والإذعان، والقوة تُمارس لفرض أمر واقع مخالف لجوهر أي اتفاق على غرار ما هو حاصل مع اتفاق الطائف، وبالتالي استخدم فزّاعة التأسيسي لكسب التنازلات السياسية، وقد نجح في التكتيك الذي اعتمده، فضلا عن ان الطائف بنسخته المطبقة منذ العام 1990 هو الطائف السوري لا اللبناني.

 

والخطأ الكبير الذي وقعت فيه بعض قوى 14 آذار كان في تمسّكها المفرِط بالاستقرار وكأنها وحدها المعنية بهذا الاستقرار، فيما سقوطه يشكل سقوطا على رؤوس جميع اللبنانيين من دون استثناء، فاستغل فريق 8 آذار هذا الجانب أيضا ليمارس ابتزازه وجرّها إلى تنازل تلو الآخر، وتبرير التنازل كان دائما هو نفسه: نحن أمّ الصبي في هذا البلد، اي الأكثر حرصا على الدولة والانتظام العام، ولكن النتيجة العملية لهذه السياسة كانت سلبية جدا على الأم وابنها معا، اي على المشروع السيادي برمته.

 

ولا تُدار لأي مواجهة سياسية سوى عن طريق توازن رعب حقيقي لا يقدِّم فيه اي فريق تنازلا إلا في حال انتزاعه تنازلاً من الطبيعة نفسها، وخلاف ذلك يعني استغلال الخصم لنقطة ضعف خصمه من أجل تسجيل النقاط المتواصلة على حسابه، فيما التصعيد السياسي يجب ان يُقابل بتصعيد لا بتراجع، لأن التسوية الفعلية التي تصبّ في مصلحة الوطن والمواطن لا تتحقّق سوى من خلال توازن في ميزان القوى السياسي.

 

ومناسبة هذا الكلام ليس انتقاد بعض قوى 14 آذار بمفعول رجعي، إنما الاستفادة من هذه التجربة من أجل حُسن التعاطي مع فريق، والمواجهة مع فريق آخر، والفريق المقصود بالتعاطي هو مكوِّن الـ13 نائباً الذي يعرِّف عن نفسه بالتغييري المعارض والذي من الواضح انه يتصرّف على قاعدة التمايز عن جميع الكتل النيابية، وان هذه الكتلة قادرة على فرض أجندتها وجرّ الآخرين إلى ملعبها وتصوير نفسها بأنها فوق الاصطفافات وفريدة من نوعها وتمثِّل عرقا لبنانيا جديدا.

 

وأكبر خطأ ترتكبه مكونات المعارضة الأخرى في حال اعتبرت ان المصلحة اللبنانية العليا تتطلّب منها تقديم التنازلات لكتلة الـ13 نائباً، لأن اي تنازل يُفهم على غير حقيقته أولاً، ويجرّ إلى مزيد من التنازلات ثانياً، ويفوِّت الفرصة على المعارضة ثالثاً من أجل الاتفاق الجدّي والفعلي على مواصفات مشتركة ومرشّح واحد يجسِّد هذه المواصفات.

 

وهذه المسألة يجب ان تكون محسومة من بداية الطريق، خصوصا ان معظم نواب الـ13 غير متمرّسين في العمل السياسي، ويغلب على ممارستهم الطابع الفولكلوري والاستعراضي، ومن الخطيئة ان يعتبر أي مكوِّن معارض انه ضنين على وحدة موقف وصفّ المعارضة أكثر من مكوِّن آخر، فإمّا ان تتحقّق هذه الوحدة وفقاً لمبادئ واضحة ومعايير مشتركة وأهداف واحدة، وإلا لا حاجة لهذه الوحدة وليذهب كل فريق بطريقه وخياراته ويتحمّل المسؤولية أمام الناس.

 

فمسار “أم الصبّي” جُرِّب ولا يجب إعادة استنساخه لا مع حليف مفترض ولا مع خصم، وكتلة الـ13 لا تستطيع ان تفعل شيئا منفردة، وهي بحاجة لمدّ اليد إلى المكونات المعارضة الأخرى التي ينطبق عليها الأمر نفسه لجهة حاجتها إلى بعضها البعض، ولكن هذه الحاجة تكون على قاعدة المساواة والمصلحة الوطنية الواحدة، وليس على قاعدة التمايز وان هناك كتلة فوق الكتل الأخرى ومنتخبة من شعب آخر وأتت فجأة من كوكب أورانوس.

 

ولا يفترض أساساً ان يسعى أي مكوِّن معارض إلى إقناع مكوِّن آخر بضرورة توحيد الصفوف لمواجهة منظومة السلاح والفساد التي أوصلت الشعب اللبناني إلى الهلاك، إنما يجب ان يكون هذا الهدف من فئة تحصيل حاصل ويعكس قناعة راسخة لدى كل مكونات المعارضة بأنّ وحدتها تشكل أقصر الطرق وأفضلها لقطع الطريق على استمرار 8 آذار في رئاسة الجمهورية واستطرادا في السلطة التنفيذية.

 

فمبدأ “العزيمة” على مصلحة البلد والناس لا يجب ان يكون مطروحا، والابتزاز من الحليف المفترض أسوأ من الابتزاز من الخصم الذي أهدافه واضحة ومكشوفة، فيما هذا الحليف يمكن ان يقود في سياسته إلى النتيجة نفسها التي يريدها الخصم، ولذلك، يجب ان تكون كل قوى المعارضة على بًيّنة من مواقف بعضها البعض من أجل ان تعرف حجمها الحقيقي وتتصرّف على أساسه.

 

وقد أعطت الانتخابات النيابية كل فريق الحجم النيابي المعروف، ولا يوجد ناخب بسمنة وآخر بزيت، وإذا كان لا مصلحة لبعض قوى المعارضة بتصنيف النواب الـ13 بأنهم بلا تاريخ ولا هوية ولا نضال ولا وضوح، فلا مصلحة لكتلة النواب الجدُد بالتمسُّك بشعار “كلن يعني كلن”، إنما المصلحة العليا تستدعي السعي إلى الاتفاق على القطعة، أي وفق كل موضوع وملف، خصوصاً ان أحداً لا يتحدّث عن جبهات، وجلّ ما هو مطلوب التقاط المبادرة الرئاسية لوضع فريق 8 آذار على خط الدفاع وصولاً إلى كفّ يده عن المؤسسات الدستورية.

 

وأكثر ما يدعو للاستغراب كلام نواب الـ13 عن انهم خارج الاصطفاف من دون توضيح اي اصطفاف يقصدون، لأن الانقسام الأساس والكبير هو بين من يريد دولة تحتكر وحدها السلاح، وبين من يتمسّك بسلاحه غير الشرعي، ودلّت التجربة الى ان المدخل للإصلاح ومكافحة الفساد وتطبيق الدستور وتحقيق العدالة يبدأ من قيام الدولة الفعلية التي لا شريك سيادياً لها، وكل كلام آخر مضيعة وهدر للوقت الذي أصبح خانقا وضاغطا مع الانهيار المتواصل والهجرة المفتوحة.

 

وما ينطبق على رفض منطق “أم الصبي” مع الحليف المفترض ينسحب بالتأكيد على الخصم الذي لا مجال للمسايرة ولا المساومة معه، خصوصا ان سياسة الابتزاز والتهديد بالفراغ حينا وضرب الاستقرار أحيانا والتلويح بتغيير الدستور في كل الأحيان تندرج ضمن سياق عدة الشغل التي يعتمدها والقائمة على مبدأ القضم التدريجي وصولا إلى وضع يده بشكل كامل على الجمهورية اللبنانية وتغيير هويتها.

 

وعليه، لقد حان الوقت للانتهاء من مقولة “أم الصبي” واستبدالها مع الحليف المُفترض والخصم الثابت بقاعدة “العين بالعين والسن بالسن”.