IMLebanon

للتطبيع وجه أخطر

 

تتردّد في الآونة الاخيرة بكثافة في المقالات الصحافية والمطالعات الاعلامية كلمة «التطبيع» وتحتلّ حيّزاً كبيراً من التحليلات التي تتوقّع أن يكون البدء في البحث بالتطبيع قريباً، كخطوة منطقية بعد إتمام إتفاقية الترسيم البحري ورضى كل من اسرائيل و»حزب الله» عنها، وتتوالى المواقف التي تتّهم فريق الدويلة المُمثّل الحقيقي لـ»الحرس الثوري الايراني» في لبنان بإعطاء الغطاء السياسي والامني للدولة الرسمية اللبنانية لإنهاء الترسيم البحري الاقتصادي على حدوده الجنوبية مع اسرائيل. وفي المقابل، تجهد المنظومة الحاكمة للدفاع عن موقفها ولتبرير موافقتها ورفض مقولة أنّ الترسيم هو المقدِّمة للتطبيع، وتُحاول ان تُظهّر شعورها بالنصر وادّعائها بهزم العدو في المفاوضات غير المُباشرة، تماماً كما بعد كلّ حدثٍ ميدانيٍ أو حربٍ أو معاهدةٍ أو اتفاق، فالهزائم المؤكّدة التي تتوالى على المحور وعلى الدول المحكومة منها تُحاول جاهدةً تحويرها لانتصاراتٍ وهميةٍ لها.

 

إعتدنا على استخدامٍ مُحدّد لعبارة التطبيع في القاموس السياسي اللبناني، حيث انحصرت في الاشارة الى إقامة اي دولة مقاطعة لدولة اسرائيل علاقات دبلوماسية معها، وأصبح التطبيع مطبوعاً في عقول الناس وكأنّه مُرادف للعمالة والخيانة، علماً أنّ إتمام التطبيع بين دولتين لا يكون الا علنياً ورسمياً، أي بقرار رسمي من الدولة، امّا الخيانة والتعامل فسرّي وبالخفاء.

 

لست هنا بصدد التطرّق لسبل التعامل الاقليمي بين الدول التي تدّعي العداوة بين بعضها البعض ولكنّها تتفاوض في الوقت ذاته على توزيع النفوذ الاقليمي، ولكنّني سأدخل في ما تعنيه عملية التطبيع، وما تسبّبه من أخطار على لبنان الصيغة والوجود والعيش الحرّ والشراكة والرسالة والتفاعل بين الحضارات والثقافات.

 

ولكنّ للتطبيع أنواعاً واشكالاً متعدّدة، منها الاجتماعية ومنها الثقافية والايديولوجية، ولكلّ منها تأثير خطير ومصيري على الثقافة الوطنية. فالتطبيع المُهدِّد للبنان، المُميّز بفرادته في المنطقة، يتمثّل بالنظريات المتخلّفة والمتزمّتة والمنغلقة الآتية من وليّ فقيه في ايران لأنّها تمسّ بالحرّيات في لبنان وبالاقتصاد المنفتح الذي طالما شكّل السند الاساسي لهذا البلد، وتُؤثّر سلباً على الممارسات الاجتماعية والدينية والتعليمية التي طالما شكّلت الشخصية اللبنانية المنفتحة والناجحة والمتأقلمة مع كافة المجتمعات الدولية الغربية والشرقية.

 

يخلق الانسان متشابهاً أينما كان وفي كلّ الأزمان وفي كافة المجتمعات، ويبدأ بالتعرّف على الحياة من خلال العائلة والمؤسسات التربوية والدينية والتثقيفية والاجتماعية وغيرها، ولكن في الانظمة الموجِّهة تأتي التنظيمات الايديولوجية لتُدير عقليته ولتبني شخصيته ولتؤسّس لتصرّفاته، ولذلك، فأخطر انواع الاحتلالات ليست العسكرية منها، لأنهّا تبقى احتلالاً مهما طالت، وتزول حتماً وإن تعسّفت، بل الاحتلالات التطبيعية هي التي تُشكّل خطر زوال لثقافة أهل الارض واصحاب الوطن، ونراها اليوم تُمارس بعدائية شديدة ضدّ عادات الشعب اللبناني من خلال التطبيع المُمنهج الذي يُمارس بتسويق آراءٍ ونظرياتٍ لا تشبه الثقافة اللبنانية ولا تقاليد شعب وطن الارز ولا المفاهيم التي نشأ عليها والذي حقّق بفضلها النجاحات الكبيرة، فنتيجة للعلوم والتربية والقيم التي تلقّاها في مدارسه وجامعاته ومعاهده الوطنية، وإرسالياته، ونتيجة الانفتاح الذي مارسه تجاه المجتمعات العربية والشرقية والغربية والتي أهّلته للتأقلم مع كافة الظروف، ونتيجة تفاعله مع مجتمعات العالم المختلفة تطبّع هذا الشعب ليكون خلوقاً ومنتجاً وهمزة وصل عالمية. التطبيع الذي يغزو الشعب اللبناني اليوم يحاول سحبه الى الجهة المُعاكسة حيث حضن محور الممانعة الذي يستفيد منه ويمتصّ مقدّراته، بدل العلاقات الدولية المُفيدة له. نرى تطبيعاً يتسلّل للعمل الاداري للدولة بحيث يُطبّع المفهوم الزبائني الكامل في السلك القضائي والأمني وفي الوزارات والتوظيفات، ويقضي على مفهوم الكفاءات ليحلّ محلّها ذهنية التبعية والاستسلام لتوجيهات السلطة الحاكمة، ونرى التطبيع يدخل الى بيئاتٍ لبنانية طالما آمنت بالحرّيات وبالعزّة بالانتماء وبالتفاخر بالنضال، ليُخضعها لمفهوم اللجوء الى الزعيم المؤلّه لضمان الحماية والمصلحة الشخصية. تطبيعٌ يجرّ الراغبين بلعب الادوار السخيفة للتلهّي بالقشور والتسويات والطروحات الاستعراضية.

 

يخيفون اللبنانيين من تطبيعٍ مرفوض بالأساس ويُسلّلون لحياته تطبيعاً إلغائياً للهوية وللوجود وللتراث وللتاريخ وللمستقبل. دُعاة التطبيع ليسوا فريقاً واحداً ولا اصطفافاً محدّداً، بل هم متنوعون ومتطبّعون بفكرة المعاداة للبنان.

 

يأتي التغيير والتطبيع في الافكار وفي الثقافات بطيئاً وتدريجياً وتراكمياً، وكما سمّاه المؤرخ الفرنسي فرنان بردويل «تاريخ المدى الطويل» هكذا انواع من التطبيع تأتي لتؤثر على كلّ جوانب الحياة البشرية الاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية. واخيراً، يتسلّل التطبيع الالغائي خطوةً خطوة ويوماً بعد يوم وأكثر المُسهّلين له جهل المتطبّعين وخبث المتعاملين وذهنية المتخاذلين. وأكثر الرافضين والمقاومين له هم رافعو شعار التحدّي لخططه، ولا وجود لأنصاف الحلول، فكفى هدراً للوقت ومضيعةً للوطن، والسلام.

 

(* )عضو تكتل «الجمهورية القوية»