IMLebanon

بطريرك الموارنة على خطّ المواجهة الأوّل في العاقورة ولاسا

من يقرأ الرسائل الحازمة والحاسمة التي وجَّهها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من العاقورة، يعلم جيداً مدى استعداد المسيحيّين للدخول في مواجهة مفتوحة إذا تعلّق الأمر بأرضهم ووجودهم.

لم يعتَد الموارنة على الانكسار أو التسليم بالخسارة، فهم لم يأبهوا يوماً للمكاسب المادية الظرفية، بل إنّ تعلّقهم بالأرض وبجبال لبنان هو أغلى ما يملكون.

فمن جبّة المنيطرة مروراً بتنورين وصولاً الى بشري وإهدن كانت البداية، من هنا انتشرت المارونية في كلّ أرجاء لبنان ووصلت الى العالم، ومن هنا امتدَّ الكيان اللبناني مع البطريرك الياس الحويك، وإلى العاقورة عاد البطريرك الماروني أمس معلِناً المقاومة على طريقته وملبِّياً نداءَ الأهالي الذين يفتقدون الى مرجعية تحتضنهم وتخوض معاركهم المُحقة.

تستعدّ العاقورة لارتداء ثوب الخريف، وتقطع الشمس الحارقة بعض نسمات الهواء التي تهبّ لتذكّر الزائرين بأنّ الطبيعة في لبنان لا تأبه لثقب طبقة الأوزون أو للتغيّر المناخي العالمي، وأنّ دولاً ومناطق تعيش على «المكيّفات»، بينما أنعم الله على لبنان بطبيعة قلّ نظيرها، لكننا ندمّرها بأيدينا.

المشوار الى العاقورة بعيد نسبياً، فخرق جبال لبنان وتحصيناتها ليس بالأمر السهل، ولا يُفسد من جمالية المشوار سوى الطريق الضيّقة والحُفر رغم إطلاق البلدية الجديدة ورشة توسيع الطريق بدءاً من مدخل البلدة، في حين يشكو الأهالي من إهمال نواب جبيل المتعاقبين والقيادات السياسية التي تغيّبت أساساً عن استقبال البطريرك، ما طرَح علامات استفهام عدة خصوصاً أنّ الأهالي يحتاجونهم في مثل هكذا أزمات، وليس عندما يريدون أصواتهم.

على جانبَي الطريق شجرُ تفاح ينتظر التجار وتحرّك الدولة لإنقاذ الموسم، أو ربما ينتظر رئيسَ جمهورية من طينة كميل شمعون، حيث يتناقل المزارعون رواية شهيرة بأنه أجبر أميركا على شراء تفاح لبنان ورميه بالبحر، خصوصاً أنّ البحر ما زال مسدوداً في وجهه وأنّ التفاح ارتبط بالموارنة لأنه يُزرع في الجبال. فهل هناك أشهر من تفاح العاقورة؟

استعادت العاقورة أمس تاريخها النضالي. فهي البلدة الأولى التي دخلتها المارونية عبر تلميذ مار مارون ابراهيم القورشي الذي أتى من ضفاف نهر العاصي وأقنع الأهالي باعتناق المذهب الجديد والتخلّي عن الوثنية، في حين أنّ الخطر اليوم والتعديات على المشاعات يأتي من تلك الناحية.

ربما كانت عينُ الراهب ابراهيم تتطلّع الى ذلك الشعب العنيد، من مغارته التي زرع الصنوبر أمامها لترى هل ما زال يقوى على التحدّيات وهل يمكنه المقاومة مجدّداً مثلما قاوَم الغزاة المماليك وسكن المغاور والكهوف، وكان رجال العاقورة يشربون من حليب نسوتهنّ ليقاوموا المهاجمين بعدما فُرض الحصار عليهم ومنع وصول الطعام إليهم؟

حضّر الاهالي جيداً لاستقبال الراعي، وزُيِّنت الطريق بالأعلام واليافطات، ففي نفس كلّ عاقوري انتظار لموقف البطريرك الذي عمل على حلّ أزمة المشاعات.

توحّدت العاقورة في الأمس. لم تعد هناك موالاة ومعارضة، ولا مشايخ وفلّاحين، وطبقت المثل القائل «أنا وخيّي ع ابن عمي وأنا وابن عمي عالغريب». تخطّت ذيول الانتخابات البلدية التي أوصلت الدكتور منصور وهبة الى رئاستها، عملت يداً واحدة على التصدي لسلب مشاعاتها وكرّست نفسها عاصمة جبّة المنيطرة، وأخذت الدعم المطلوب من بطريرك الموارنة الذي أثبت أنّه لم يخرج عن خطّ البطاركة الذين سكنوا يانوح وقنوبين وإيليج وبكركي وبالطبع كفرحي خصوصاً عندما يصبح الخطر وجودياً.

وقف الراعي على مذبح كنيسة مار جرجس أمام حشود المؤمنين المتوجّسين من الآتي، وطالب وزير المال علي حسن خليل بـ»تصحيح المذكرة الصادرة عنه، والمتعلّقة بمشاع العاقورة منعاً لأيّ التباس، ومنعاً لأيّ تصرّف حاضراً ومستقبلاً من شأنه أن يولد نزاعات كلنا بغنى عنها».

ودعا الراعي «الدولة اللبنانية إلى أن تضع حدّاً للتعدّي الحاصل في بلدة لاسا على أملاك نيابة جونية البطريركية لإكمال أعمال المسح القانوني وتحديد الملكيات وفقاً للمستندات القانونية، وبذلك نضمن للجميع من دون استثناء حقوقهم ونعيش معاً بسلام وتعاون واحترام»، لافتاً إلى أنّ «المادة الـ15 من الدستور ترسم أنّ الملكية هي في حمى القانون، وعلى هذا الأساس نعمل مع المسؤولين المعنيين في الطائفة الشيعية على إنهاء هذا الموضوع لخير الجميع وخير لاسا وكلّ شعبها، بعيداً من أيّ تشنّج طائفي أو سياسي».

فوجِئ الجميع بحدّة الموقف وحسم البطريرك للقضية، وشعروا أنهم غير متروكين لقدرهم أو أنّ أحداً يستطيع التعدّي على أملاكهم التي كرّسها القانون.

قال الراعي كلمته في مار جرجس ومشى الى كنيسة السيدة ومعه الأهالي، وفي هذه الرحلة القصيرة رسالة واضحة فهمها العواقرة جيداً، وكرّست مصالحة رفض الراعي أساساً الحديث عنها لأنه اعتبر أنّ العاقورة قلب واحد ويد واحدة… فاخترقت الطبقات الاجتماعية والألقاب وجمعت البلدة مجدداً وجعلتهم يتشاركون الصلاة والأكل.

قد تكون التحدّيات كبيرة، فتاريخ العاقورة وإن كان مجبولاً بالنضالات، لكنّ هناك بعض النقاط السوداء التي مرّت والتي يرغب الجميع في طي صفحتها، لأنّ الطامعين باتوا على أبوابها، وتمّ منعهم هذه المرة، لكنهم في المرة الثانية قد يدخلون إن لم يكن العواقرة موحَّدين.