IMLebanon

بكركي: الرئاسة ليست للإيجار

 

 

لا التباس في مواقف بكركي من مسألة انتخاب رئيس للجمهورية. لا تدخل بكركي في الأسماء ولكنها تحدد المواصفات. سبق لها واستُدرِجت إلى التسمية وتقديم اللوائح منذ العام 1988 ولكنها كانت كلها تجارب فاشلة. بالنسبة إلى البطريركية المارونية الخطر الذي يتهدّد لبنان اليوم أكبر من اختيار رئيس وهي تعتبر أن انتخاب الرئيس يجب أن يكون بداية لتصحيح المسار الذي يهدِّد الكيان اللبناني من أجل استعادة الهوية الحقيقية للبنان. ولذلك يركز البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظاته الرئاسية على أهمية انتخاب الرئيس المنقذ وهي مهمة تاريخية تحمِلها بكركي منذ ما قبل قيام «لبنان الكبير».

 

في آخر أيلول من العام 1921، بعد عام على إعلانه دولة «لبنان الكبير» من قصر الصنوبر، زار الجنرال هنري غورو البطريرك الماروني الياس الحويِّك في مقرّه الصيفي في الديمان، وكانت لا تزال تتردّد أخبار تثير لغطاً حول الوحدة السورية الأمر الذي اعتبره البطريرك أخطاراً تهدّد استقلال لبنان الذي كان أعلنه الجنرال غورو نفسه. على رغم أهمية الضيف الذي تكبّد مشقّات الإنتقال من بيروت إلى الديمان بصفته مفوّض فرنسا في لبنان وسوريا، لم يتوانَ البطريرك الحويِّك عن مصارحته بهواجسه وبشكل حاد. وبحسب ما ورد في كتاب «وثائق البطريرك الياس الحويِّك السياسية» للخوري اسطفان ابراهيم الخوري، قال له البطريرك: «يا حضرة الجنرال. إنّك تعلم قدر سرورنا بزيارتكم… إنّ ما لنا فيك من الثقة يبيح لنا أن نصارحك ببعض أمور البلاد. كنت منذ سنين خلت مارًّا في القطر المصري فقابلت في القاهرة حضرة معتمد فرنسا وقد دار بيننا الحديث على العدل والمحاكم في مختلف الأمصار فقال المعتمد إنّ 95 في المئة من محاكم فرنسا تقضي بالعدل الصحيح والباقي تحت الشك واليقين. فقلت له إن 95 في المئة من محاكم الدولة لا تقضي بالعدل والباقي ما بين الشك واليقين. فنحن اليوم يا حضرة الجنرال نريد أن نأمل بفضل المساعدة التي تأتون بها أن الأمور ستتعدّل فيصبح 95 في المئة من محاكمنا على ما نودّ من القضاء والعدل بين الناس».

 

وتابع» «إنّك قد أعلنت، يا حضرة الجنرال، استقلال لبنان بحدوده الطبيعية وأنت تدري كم كان فرحنا شديداً وامتناننا عظيماً. غير أنّ بوادر الأحوال تدلّ من مدّة على أنّ هناك أخطاراً تهدِّد ذلك الإستقلال. ففي البلاد لغطٌ وهمسٌ حول الوحدة السورية أو الإتحاد مع سوريا. إنّك تعلم يا حضرة الجنرال أنّ اللبنانيين لا يريدون هذا ولا يرضون به. فأنا يوم سافرت إلى باريس وحملت إليها الوكالات ممضاة من كلّ طوائف لبنان باسم اللبنانيين قاطبة وطالبت هناك باستقلال البلاد وبالحدود الطبيعية وأنت تعلم أنّه في أحاديثي مع الموسيو كليمنصو وفي الكتاب الذي أرسله إليّ تصريح رسميّ وبطريقة لا تترك مجالا للشك أنّ استقلالنا لا يقبل الجدل وأنّ لبنان يتمتع باستقلاله التام عن كل حكومة مجاورة. فإذا جاءكم قوم مفسدون وقالوا إن اللبنانيين قد رجعوا عن رأيهم فلا تُصدِّق. أنا أنطق بلسان اللبنانيين عن بكرة أبيهم فأقول لك إنّ اللبنانيين لأشدّ تشبثًا اليوم بالإستقلال منهم في كل زمان مضى… هذا وإنّ لبنان لم يرضخ يوماً من الأيام لحكم أجنبي. إنّ جدودنا وآباءنا ما ارتضوا بهذه الجبال الجرداء ينزلونها معتصمين إلّا وهمّهم الوحيد حماية حريتهم وحقوقهم فلا تصل إليها وإليهم يد الغزاة الفاتحين…».

 

بعد أن قوبل خطاب البطريرك بالتصفيق لأكثر من مرّة، لم يتمالك الجنرال غورو من إظهار علائم الدهشة والإنفعال فوقف متأثراً بما سمع مؤكداً على احترام استقلال لبنان قائلًا: «أكبر برهان على أننا محافظون على وعودنا هو وجودي الآن الى مائدتك أيها السيد الجليل وأنت وكيل الأمّة اللبنانية. أكرّر لك عهدنا للبنان شارباً نخبك ونخب لبنان الكبير». وقد نام الجنرال تلك الليلة في ضيافة البطريرك وغادر صباح اليوم التالي مؤكداً على الوعود والعهود.

 

 

 

بين الحرية والعيش المشترك

 

صحيح أنّ مئة عام مرّت على تلك الواقعة، وصحيح أنّ الجنرال غورو غاب والبطريرك الحويِّك رحل وفرنسا لم تعد تلك الفرنسا، ولكن بكركي ما زالت بكركي من الياس الحويِّك إلى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بينما لا تزال اليوم قضية استقلال لبنان مطروحة ولا يزال صدى كلام بكركي هو ذاته دفاعاً عن هذا الإستقلال. هي العبارة نفسها التي قالها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير «إذا خُيّرنا بين العيش المشترك والحرية نختار الحرية»، وكأن عظات البطريرك الراعي هذه الأيام تكاد تستعيد نفس المعادلة كلّما ضاق الخيار بين الحرية والعيش المشترك في ظلّ الكلام الكبير الذي يقال اليوم حول الكيانية اللبنانية وحول هوية لبنان الكبير وحول من له الفضل على لبنان الذي باعبتار «حزب الله» أنه لم يصبح موجوداً على الخريطة لولاه.

 

ماذا تريد بكركي؟

 

منطلقاً من هذه الخلفية المارونية البطريركية، حدّد الراعي مواقفه في عظة 5 تموز 2020 قبل أن يحين موعد انتخاب رئيس الجمهورية وقد كان متحسِّسًا لخطورة المرحلة التي دخل فيها عهد الرئيس ميشال عون وأدخل فيها معه لبنان عندما رهن الشرعية وقراراتها للأمين العام لـ»حزب الله». دان الراعي إعطاء من يتولّون السلطة الأولوية للمكاسب الشخصية واتّهمهم بإفراغ خزينة الدولة وأيّد «ثورة 17 تشرين»، وقال «إن نارها لن تنطفئ». وهي الثورة التي هاجمها الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في 11 تشرين الثاني 2022 وقال عنها إنها مؤامرة أميركية. وبعدما دافع الراعي عن «لبنان الحضارة الذي يريدون قتله» حدّد الأهداف وقال: «إنّ المرحلة التي بلغناها تحملنا إلى توجيه هذا النداء:

 

• نناشد رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ.

 

• نطلب من الدولِ الصديقةِ الإسراعَ إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّضَ لخطر.

 

• نتوجّه إلى منظَّمة الأمم المتّحدة للعمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلانِ حياده. فحيادُ لبنان هو ضمانُ وِحدته وتموضعه التاريخيّ في هذه المرحلةِ المليئةِ بالتغييراتِ الجغرافيّةِ والدستوريّة. حيادُ لبنان هو قوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط».

 

تجديد العهد والنداء

 

وفي عظة 12 تموز 2020 جدّد الراعي هذا العهد والنداء عندما قال: «فمِن أجل حماية لبنان ورسالته من أخطار التَّطوُّرات السِّياسيَّة والعسكريَّة المتسارعة في المنطقة، ومن أجل تجنُّب الانخراط في سياسة المحاور والصِّراعات الإقليميَّة والدَّوليَّة، والحؤول دون تدخُّل الخارج في شؤون لبنان، وحرصًا على مصلحته العُليا ووحدته الوطنيَّة وسِلمِه الأهليّ، وفتح آفاقٍ واعدةٍ لشبَّانه وشابَّاته، والتزامًا منه بقرارات الشَّرعيَّة الدَّوليَّة والإجماع العربيّ والقضيَّة الفلسطينيَّة المحقَّة، والمطالبة بانسحاب الجيش الإسرائيليّ مِن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر، وبتنفيذ قرارات الشَّرعيَّة الدَّوليَّة ذات الصِّلة، أطلقتُ النِّداء، إلى الأُسرَة الدَّوليَّة لإعلان حياد لبنان، من أجل خيره وخير جميع مكوّناته والأهداف التي ذكرت».

 

أضاف: «لقد فعلتُ ذلك بالأمانة لرسالة هذا الصَّرح البطريركيِّ، الذي يضع نُصب عينيه كلَّ اللُّبنانيِّين دونما تمييز أو إقصاء، وكان له دورٌ رياديٌّ في المحطَّتين السَّابقتين من حياة لبنان: الأولى، إعلان دولة لبنان الكبير في أوَّل أيلول 1920، في عهد المكرَّم البطريرك الياس الحويّك؛ والثَّانية، إعلان استقلاله النَّاجز في سنة 1943 في عهد البطريرك أنطون عريضة. واليوم، لا بدَّ مِن البلوغ الى المحطَّة الثَّالثة والنِّهائيَّة، وهي حياده. فتكون الذِّكرى المئويَّة الأولى نقطةَ انطلاقٍ نحو حياد لبنان ودوره الجديد الفاعل. ولعلَّ هذا الدور من هبات العناية الالهيَّة… كلُّ هذا يعني أنَّ اللُّبنانيِّين يُريدون الخروج من معاناة التَّفرُّد والجمود والإهمال. يُريدون شركة ومحبَّة للعمل معاً من أجل انقاذ لبنان وأجياله الطَّالعة. يُريدون مواقف جريئة تُخلِّص البلاد، لا تصفية حسابات صغيرة. يُريدون دولةً حُرَّةً تَنطِق باسم الشَّعب، وتعود اليه في القرارات المصيريَّة، لا دولةً تتنازل عن قرارها وسيادتها أكان تجاه الدَّاخل أم تجاه الخارج».

 

وقال: «لا يريدون أن يتفرَّد أيُّ طرفٍ بتقرير مصير لبنان، بشعبه وأرضه وحدوده وهويَّته وصيغته ونظامه واقتصاده وثقافته وحضارته، بعد أن تجذَّرت في المئة سنة الأولى من عمره! ويَرفُضون أن تعبث أيَّةُ أكثريَّةٍ شعبيَّةٍ أو نيابيَّة بالدّستور والميثاق والقانون، وبنموذج لبنان الحضاريّ، وأن تعزله عن أشقَّائه وأصدقائه مِن الدُّوَل والشُّعُوب، وأن تنقلَه من وفرة إلى عوز، ومِن ازدهارٍ الى تراجُعٍ، مِن رُقيٍّ إلى تخلُّف».

 

مبادئ أبعد من انتخاب رئيس

 

هذا الكلام لا يرتبط بموعد انتخابات رئاسة الجمهورية بل هو فعل إيمان بلبنان وبرسالة بكركي المؤمنة بأنّ هذا «اللبنان» لا يمكن أن يتمّ تزوير تاريخه كما يحاول «حزب الله» أن يفعل. فبكركي كانت وستبقى ضدّ أن يتفرّد اي طرف بتقرير مصير لبنان وضدّ أن تعبث أي أكثرية شعبية أو نيابية بالدستور والميثاق والقانون. وضمن هذا الإطار تأتي عظات الراعي الرئاسية التي حدّد فيها مواصفات الرئيس ودور النواب ومجلس النواب. ومن تحت هذا السقف لا يمكن أن يمرّ أي حوار مع «حزب الله» أو غيره ولا يمكن أن يمرّ انتخاب أيّ رئيس لا يعبِّر عن تطلعات بكركي ولا يتحمّل مطالبتها باستعادة السيادة الكاملة والعمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحر وعلى العمل لإعلان حياد لبنان.

 

وهو لذلك ليس بحاجة إلى أن يسمّي مرشحين للرئاسة. النداءات التي يوجهها تحمل لائحة من الأسماء وترفض لائحة ومن يدركون أن مواصفات بكركي لا تنطبق عليهم يجب أن يحجموا عن الترشح. فرئاسة الجمهورية بحسب عظات البطريرك الراعي وقبله البطريرك صفير ليست للإيجار ولا يمكن أن يعيّن فيها «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصرالله من يشاء لأن هذه الرئاسة هي بحسب منطق بكركي وتاريخ لبنان هي الممثلة للشرعية وتحت سقف هذه الشرعية يجب أن ينضوي «حزب الله» وغيره.

 

وإذا كان «الحزب» يعتبر أنّه أكبر من الشرعية وأنّ الرئاسة يجب أن تكون في خدمته بحجة عدم طعنه في الظهر فإن على «الحزب» ألا يطعن الرئاسة والجمهورية في الظهر.

 

 

 

مراجعة الحسابات

 

وعلى من يعتبر نفسه أنه مرشح «حزب الله» لهذه المهمة عليه أن يراجع حساباته لأن انتماءه الماروني يحتِّم عليه أن يكون تحت السقف الذي يرفعه البطريرك والذي كان خريطة طريق دائمة للموقع الأول في لبنان والذي يعبِّر عن سيادة الدولة وشرعيتها فوق كل الرئاسات والمواقع السياسية الأخرى. ولا يمكن لأي مرشح أن يتلطّى وراء مسألة أن لا فيتو للبطريرك على أحد، لأنّ هذا الكلام غير صحيح. فعظات البطريرك تسمّي الكثيرين حتى لو لم تسمِّهم. فبمجرد أن يجمع السيد حسن نصرالله من يعتبر أنهما مرشَّحَيه للرئاسة ويفاضل بينهما ويحاول أن يقنع أحدهما بتأييد الآخر، بغضّ النظر عن الإسماء إذا كانت سليمان فرنجية أو جبران باسيل أو اي اسم آخر، فهذا يعني أنه يجب أن يسقطا من لائحة بكركي.

 

فالرئاسة بالنسبة إلى البطريركية المارونية ليست منصباً سياسياً بل هي رمز للدولة لا يمكن أن يتولّاها إّلا من كان بحجم طموحات بكركي ومطالبها وبحجم المهمة التاريخية المطلوبة اليوم من الرئيس. رئيس يستطيع أن يحرِّر قرار الشرعية. هذا هو الرئيس القوي الذي يريده لبنان وتريده بكركي ولا عجب في ما إذا كان «حزب الله» يرفضه ويمنع وصوله ويريده صاروخاً من صواريخه. إنها حرب إرادات والمواجهة الحاصلة اليوم ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.