IMLebanon

صراع الموارنة وسط الطوفان

هنالك قول أميركي مأثور وشائع جداً يشبّه القانونَ ببيت العنكبوت الذي يمسك بالحشرات الصغيرة لكنّه يتمزّق بكامله لدى مرور الحيوانات الكبيرة.

شيءٌ من هذا القبيل يحصل في لبنان، فالمشاريع السياسية الكبرى في المنطقة فرَضت تعديل الدستور مراراً وتجاوُزَ بنودِه، واليوم تفرض ظروفُ النزاع تجاوزَه لناحيتين: الأولى تتعلق بالانتخابات الرئاسية، والثانية بالتمديد الثاني للمجلس النيابي. لكن ثمّة قاعدة ثابتة مشتركة بين كلّ هذه المحطات، وهي النزاع المسيحي – المسيحي الذي لا حدود له، وكأنّ المسيحيين لم يتّعظوا من الحروب المدمّرة.

لا أحد ينكر أنّ موقف رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع تبدّلَ بعد زيارته للسعودية، وقبلها لم تكن تمرّ مناسبة من دون التأكيد الواضح أنّ «القوات» ستعارض التمديد حتى النهاية.

وترَدَّد على نطاق واسع يومَها أنّ جعجع عاد منزعجاً من السعودية وهو لم يُصدر، كما درجت العادة، بياناً رسمياً عن لقاءاته. هذا الانزعاج جاء بفعل مفاجأة سَفر النائب سامي الجميّل أيضاً إلى السعودية، ورَدّ بعض القريبين من جعحع استياءَهم إلى استنساخ أسلوب «الوصاية السورية».

وفي اللقاء الذي جمعهما، عاتب وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل جعجع على موقف «القوات» من التمديد. وعلى ذمّة مصادر ديبلوماسية عربية قال الفيصل: «… كنّا نعتقد أنّ «حزب الله» يسعى لتفريغ الدولة من مؤسساتها، وإذ بنا نُفاجَأ بسلوكِكم هذا الاتّجاه، فهل المرحلة تسمح بالمزايدة المسيحية – المسيحية؟». وحسبَ هذه المصادر فإنّ المسؤول السعودي بدا متمسّكاً بملاقاة تيار «المستقبل» في أيّامه الصعبة.

في الأساس كانت علاقة جعجع بـ»المستقبل» قد شهدَت تراجعاً كبيراً وانخفاضاً في منسوب الثقة إثر سير «القوات» في المشروع «الأرثوذكسي». وقد تردّد أنه في حال حصول الانتخابات فلا بدّ من أن تتضمّن رسائل معبّرة. فالأسئلة كانت كثيرة حول الانفتاح السعودي، إضافة إلى «المستقبل»، على النائب السابق إيلي سكاف في زحلة، وتراجُع حماسة الشارع السُنّي في الانتخابات الفرعية في الكورة.

لكنّ الرسالة القوية جاءت مع انفتاح قنوات التواصل فجأةً بين النائب ميشال عون والرئيس سعد الحريري، والتي كادت أن تمرّ لولا «الفيتو» السعودي، فيما كان جعجع منزعجاً بسبب تركِه خارجَ ما يحصل. وفيما تمسّكَ الحريري بإبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع الرابية حتى ولو لم تنتج تفاهماً رئاسياً، بقيَت العلاقة مع معراب حذِرة.

ومع أنّ الجميع كان يعلم بأنّ قرار التمديد الثاني متّخَذ، فإنّ جعجع اختارَها مناسبةً لتوجيه رسائله الاعتراضية عبر بعض الترشيحات التي ترتكز على استبدال نواب محسوبين على «المستقبل» بمرشّحين محسوبين عليه بالكامل. لا بل إنّه أعلنَ ترشّحَه لرئاسة الجمهورية من دون التنسيق المسبَق مع الحريري الذي قيل كثيراً عن مجاراته لجعجع مرغماً.

جعجع رشّحَ نفسَه بدايةً في محاولة لتأمين فوزه من خلال التمسّك بنظرية الرئيس القوي. لكنّ الإشارات التي ظهرَت من خلال عدد الأصوات التي حصلَ عليها، إضافةً إلى إشارة انتقال النائب مروان حمادة ورفاقه إلى صفوف النائب وليد جنبلاط الداعم للمرشّح هنري حلو، كلّ ذلك حتّم عليه الانتقال إلى الهدف التالي، ألا وهو قطعُ الطريق على عون.

ومع اتّضاح الصورة حول معارضة السعودية النهائية لعون، وبالتالي صعوبة وصولِه، انتقلَ جعجع إلى هدفه الأخير، وهو فرضُ نفسِه على عون شريكاً في اختيار الرئيس. فالجميع يلتقون على أنّ عقدة عون التي تمنع إنجاز الاستحقاق الرئاسي يبقى حلّها في يد عون وحده.

والبعض يقول إنّ الرئيس المقبِل سيولد مع التفاهم الإيراني – السعودي إقليمياً، وعون – الحريري – حزب الله داخليّاً. ما يعني أنّ جعجع يريد أن يحجز له مكاناً، وهو السبب الفعلي لعدم إخلائه مقعدَ ترشيحه للرئيس أمين الجميّل. لكن في المقابل يبدو أنّ عون ما يزال متمسّكاً بوصوله إلى قصر بعبدا، ورافضاً حتى الساعة على الأقلّ دور «صانع الرئيس».

في اللقاء الأخير الذي جمعَ الوزير جبران باسيل بالحريري في باريس، قدّمَ الأخير عرضاً فيه كثير من الدهاء: «نقترح عليك أن تكون أنت المرشّح، وأضمن لك موافقة حلفائنا اللبنانيين ومباركة السعودية»، ويقول باسيل إنّه قطعَ الحديث فوراً مؤكّداً أنّ المرشّح الوحيد هو عون، ويضيف: «المقصود بذلك توجيه رسالة واضحة مفادُها أن لا نيّة لدينا بالتراجع عن موقفنا. في أيّ حال ليس العرض الأوّل من هذا النوع، ففي نهاية عهد ميشال سليمان طرحوا عرضَهم يومها ورفضناه».

هنالك مَن اعتبرَ أنّ الحريري أراد أن يزحزح عون، وآخَر أنّه سعى لإحداث تفسّخات في الجبهة الداعمة لعون انطلاقاً من حساسية الرئيس نبيه برّي ووضع رئيس تيار «المرَدة» النائب سليمان فرنجية وحسابات حزب الله.

عون يقول في وضوح لزوّاره: «هذه آخر معركة أخوضها لمصلحة المسيحيّين». ثمّ يستدير فجأةً ليقول: «منذ العام 2005 انتهجتُ سياسةً أدّت إلى حماية المسيحيين، ووسط كلّ هذه الأعاصير في المنطقة بقي مسيحيّو لبنان في مأمن.

كنتُ أقرأ الاتّجاهات سَلفاً وأخوض معارك صعبة: سلاح حزب الله، بقاء النظام السوري، النازحون السوريون والحركات التكفيرية، أربعة عناوين كبيرة لو تركت القيادة لغيري لجاءت النتائج كارثية». ويأخذ عون من ذلك جرعة قوّة ليكرّر موقفه: «أنا مستمرّ في ترشّحي حتى النهاية».

ومن هذه الزاوية يخوض عون معركة رفض التمديد، لاقتناعه بأنّ انتخابات نيابية ستمنحه أكثرية تخوّله الوصولَ إلى بعبدا. ومن أجل ذلك سيذهب إلى الطعن وربّما أكثر من الطعن… حروب الموارنة تحجب الرؤية عن المتغيّرات في الشرق الأوسط والتي تحمل عواصفَ الخطر وزوال شعوب.