IMLebanon

ماذا لو تكلّم زرادشت منذ نَيِّفٍ وخمس سنوات؟

 

 

“هكذا تكلّم زرادشت” هي رواية فلسفيّة للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، تتألّف من أربعة أجزاء صدرت بين 1883 و1885. تتكوّن من سلسلة من المقالات والخطب تسلّط الضّوء على تأمّلات زرادشت، وهي شخصيّة مستوحاة من مؤسّس الدّيانة الزّرادشتيّة. وقد صاغ نيتشه أفكاره الفلسفيّة في قالب ملحمي وبلغة شعريّة، وقدّم في كتابه مقاربة للفضائل الإنسانيّة كما يراها؛ إلّا أنّه أُخِذَ عليه تمجيده للقوّة حيث يُعدُّ نيتشه من أوائل من صاغوا نظريّة الرّجل الخارق. وظهرت في هذا الكتاب أوّل إشارة للنّظريٍة النّيتشيّة “التّكرار الأبدي”. وفي كتابه هذا استخدم نيتشه النقد الأنثروبولوجي ليطرح مفهومه للسياسة الكبرى القائم على عدائه الشديد للديموقراطيّة والاشتراكيّة وحتّى للديانة المسيحيّة. وحارب الأخلاق النفعيّة باعتبارها “فلسفة للخنازير”، حسب تعريفه، تقوم على الجشع وتتميز بالحرص الممزوج بالجبن لتحقيق المآرب والمنافع. وتأثّره بنظريّة التطوّر دفعه إلى طرح التطوّر الناتج عن الانتخاب الطبيعي، للوصول إلى الإنسان المتفوق أو الرجل الخارق. ولكن هذا التطوّر، ولأنّه متقدّمٌ جدّاً في سلّم الحياة، يتطلّب كلا نوعي الانتخاب – الطبيعي والاصطناعي. ولأنّ الانتخاب الطبيعيّ قائمٌ أساساً على القوّة و”البقاء للأصلح”، فلن يبقى إلا أقوى الأفكار وأقوى البشر. ومن هنا نتبيّن سبب تمسّكه بأخلاق القوّة وإرادة القوّة التي بنى عليها نظريّاته الأخلاقيّة.

 

وهذه المبادئ النيتشويّة ما زالت قائمة في عدّة شخصيّات سياسيّة واجتماعيّة ومن مختلف الأطياف، ولعلّ أبرز المتأثّرين بها كان الفوهرر أدولف هتلر، أي نظرية Übermensch أو الرجل الخارق، وكان ينعت نفسه بهذا الوصف في كتابه “كفاحي”. أمّا في ما يتعلق بإرادة القوّة، فنيتشه يقدّسها ويعبدها، ويرى دوماً بأنّ من حقّ الأقوى أن يحكم، والشعب الأقوى أحقّ بمقدّرات الأضعف. فهو يرى أنّه “لا مساواة” لكن “نعم للعدالة”.

 

فهذه المنطلَقَات النيتشويّة تحكم العقليّة السياسيّة عند بعض الساسة اللبنانيّين الذين ما فتئوا يطلقون نظريّات الرّئيس القوي الذي يجسّد الإنسان المتفوّق أو الرجل الخارق الذي تحدّث عنه نيتشه. ولكن العبرة كانت في تطبيق هذه النظريّة. فأدولف هتلر تحوّل إلى رجل تدميريّ كلّف أوروبّا والعالم دماراً فكريّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً ما زالت حتّى اليوم دولته ألمانيا تدفع ثمن أفعاله لما نجح به من لمّ شمل لليهود حيث استطاع دفعهم نحو فلسطين العربيّة، وما زالوا حتّى اليوم يقطفون ثماره من ألمانيا والعالم كلّه.

 

وفي لبناننا تحوّلّت نظريّة الرئيس القوي لتصبح أداة تدميريّة قضت على الدّولة اللبنانيّة على عواهنها التي كانت تعاني منها، حتّى صارت دولة مفلسة وفاشلة ومحاصرة من معظم دول العالم. فبحسب نيتشه: “الجنون هو الذي يفتح الطريق أمام الفكر الجديد، وعلى البشر أن يحقّقوا أهدافهم الكلّيّة. والإنسان المتفوّق هو الذي يستطيع تحقيق الأهداف والارتفاع إلى مستوى الحب القدري”. لقد أثبتت العقليّة اللبنانيّة بما لا يقبل الشكّ وبعد قرابة المئة والأربعين عاماً فشل هذه النظريّات كلّها؛ وبات السّاعون إلى تحقيقها قادرين على تدمير أفضل ما في وطنهم لإظهار أسوأ ما فيهم على أنّه الخير العام والخلاص المرتَقَب من الفكر النفعي الذي استطاع الاستفادة من نظريّة الرجل الخارق التي أوصلته بدورها لأن يكون عنده دولة سيّدة ومستقلّة في قلب الوطن العربي الجريح.

 

وما الدّعوات التي أطلقت مؤخّراً للحوار حول استراتيجيّة دفاعيّة بوجه هذا العدوّ المتغطرس، وحول شكل الدّولة اللامركزي المنصوص عليه في الدّستور منذ العام 1990، وحول خطّة التعافي المالي والاقتصادي بما فيها الإصلاحات اللازمة إضافةً إلى التوزيع العادل للخسائر، إلا ذرّاً للرماد في العيون للتغطية على فشل نهج في الحكم، لم ينجح إلا في توأمة الفساد والسلاح غير الشرعي خارج أطر الشرعيّة المؤسّساتيّة والدوليّة بحسب أبسط المفاهيم الدستوريّة.

 

ماذا لو تكلّمَ زردشت منذ نَيِّفٍ وخمسِ سنواتٍ وأسقط نظريّات القوّة هذه كلّها على الحياة الواقعيّة السياسيّة لا استقواءً بالسلاح غير الشرعي ولا انقلاباً على الدّستور؟ ألم تكن لتتحوّل نظريّة الرجل الخارق أو الإنسان المتفوّق بحسب المفهوم النيتشويّ إلى الإنسان العادل الذي يستطيع أن يفرض العدل بالعدل، والمساواة بالمساواة؟ ما نعيشه اليوم في لبنان هو نتاج لإيمان بعضهم المستمرّ بنظريّة الرجل الخارق التي دمّرت العالم. فمَن يريد أن يسيطر على العالم ويدمّر أميركا بسلاحه، وهو لا يستطيع أن يؤمّن رغيف الخبز لشعبه، وبين مَن يريد أن يصلح وطناً وهو لا يستطيع إصلاح أهل بيته؛ ضاع وطن بكامله وتحوّل من طريق للجنّة في الشرق إلى وادٍ لجهنّم بحدّ ذاتها.

 

الخلاص آتٍ لا محالة، وما أسقطه التاريخ لن تنجح بإحيائه الجغراسيا ولا الجغرافيا. وما هو قويّ بالنسبة إليك لا يعني بالضرورة قوّة لي. لأنّه حوّل وطني إلى وطن ضعيف بالمطلق. فما رآه بعض هؤلاء حيناً خيراً على وطننا، انعكس شرّاً في أحايين كثيرة. لذلك كلّه، لا توجد طريق واحدة سليمة يسير عليها الخير والشرّ. وإن كان الشرّ الأعظم لهؤلاء كلّهم ضرورة وجوديّة لأن يدرك الذين خُدِعوا الخير الأعظم بدّاً منه، فلا بدّ لهؤلاء كلّهم أن يقولوا الحقّ ليتحرّروا من السجن الكبير الذي نجح هؤلاء بأسرهم فيه عبر إسقاطهم ورقة القوّة الخدّاعة هذه بالورقة الصحيحة في صندوقة الاقتراع في أيّار القادم.

 

ماذا وإلا يكون هؤلاء قد نجحوا بشرّهم وفكرهم التدميري بإحياء نظريّة التكرار الأبدي النيتشويّة، وثبّتوا الإنسان الأعلى عوضاً عن الإله؛ فنعود عندها لنعيش ما عشناه من قبل، لنبقى كما كنّا الآن نيتشويّين خاضعين لمبدأ القوّة على حساب العدالة الحقيقيّة والدولة الحقيقيّة والإنسان الحقيقي.