IMLebanon

أبو الياس.. “يَلّي خلّف ما مات”

 

 

عام مضى على رحيل دولة الرئيس الراحل ميشال المر، ولبنان يفتقد تلك القامة الوطنية الشامخة التي تركت على مدى عشرات السنين بصمات وإنجازات ستستمر مرجعية ونبراساً يحتذى لدى كل السلطات المتعاقبة وكل من يتعاطى الشأن العام.

عام مضى على رحيل “ابو الياس” والحياة السياسية تفتقد الى ما يمثّله من رمز اعتدال في الحياة السياسية والى تلك النكهة الخاصة التي ميّزها بها كرجل دولة من الطراز الرفيع كان له على الدوام في كل مقام مقال، وفي كل محطة من محطات تاريخ لبنان الحديث والمعاصر بصمة، وهو الذي اكتسب دوماً صفة “صانع الحلول” عندما كان الجميع يعجزون عن اجتراحها او ابتكارها.. وصفة “صانع الرؤساء” يوم استحال على الجميع التوافق على رئيس، منذ ايام الرئيس الراحل سليمان فرنجية الى ايام الرئيس الحالي ميشال عون وما بينهما، اذ كانت للرجل بصمة في اختيار عدد من الرؤساء، وإن لم يحفظ بعضهم الوفاء لـ”أبي الوفاء” الذي بمُعايشتي له طوال نحو 40 عاما عرفت فيه شيمة الوفاء للناس ولكل من احب، اذ ما كان ينهي علاقة مع احد إلاّ اذا بادر هذا الأحد الى انهائها. وما كان يوما الا وفياً للعهود مثل وفائه لكل من وقف الى جانبه مؤازرا او داعماً في ايام الرخاء كما في ايام الشدة.

 

لقد احب “أبو الياس” الله في الناس فأحبّه الله وأحبه الناس طوال حياته معهم، وقد حباه الله بنعم كثيرة كان للناس فيها من كل الطوائف والملل نصيب كبير خدمات وعطاءات على اختلاف اشكالها، وكم كانت السعادة تغمره عندما يؤدي خدمة لأي انسان، بل انه كان يسعى وراء من قدم له الخدمة لكي يسعد بالبسمة التي ارتسمت على محيّاه وبالفرحة التي غمرته نتيجة هذه الخدمة.. ولا مبالغة في القول ان “ابو الياس” كان يساعد كثيرين من الناس من دون ان يعرفهم، وحتى من دون ان يسأل طالب الخدمة او المساعدة عن اسبابها الموجبة، فلم ينهر سائلا يوماً ولا رد طالب حاجة أو خدمة لجأ اليه الى اي طائفة او جهة انتمى…

 

ذلك هو “ابو الياس” الانسان الذي كان اللصيق الدائم بالناس، الاقربين منهم والأبعدين، والعابر للطوائف والاحزاب والانتماءات المختلفة الى الانتماء لوطن نهائي لجميع ابنائه يجمعهم عيش واحد. فخدمة الناس كانت تتقدم عنه على المراكز والمناصب، اذ كان يُسخّر كل موقع يتبوأه لهذه الخدمة لأنه كان يشعر ان من نعم الله عليه كانت حاجة الناس اليه ليساعدعم على قضاء حوائجهم سراً وجهراً من دون ان يخشى في الحق لومة لائم.

 

ولقد كان ابو الياس سريع المبادرة، يتجاوز تعقيدات الروتين الاداري الذي يؤخر عمل الادارات لخدمة الناس، ومن امكاناته الخاصة وماله الخاص وعلى مدى تعاطيه الشأن العام عالج مشكلات وانجز خدمات للبنانيين تأخرت الدولة او عجزت عنها. وكل موقع كان يتولّاه كان يرفع من مستوى خدمته للناس ولا يجيره لمصالحه الخاصة مثلما فعل كثيرون في ايامه وما زالوا يفعلون الى يومنا هذا، حيث يتوسلون المراكز وخدماتها ونفوذها لترفع من شأنهم. فما كان يرفع من شأن “ابو الياس” بين الناس وعلى المستوى الوطني هو خدمته للبنانيين جميعا ومحبتهم له، ما جعله رقما صعبا في الحياة السياسية ومعادلاتها والتوازنات. فأبو الياس المهندس، كان مهندسا بارعا في تدوير الزوايا في بلد التسويات والتوافقات، مثل براعته طوال حياته في هندسة تحالفاته السياسية والانتخابية والتي كان يعترف له الجميع بأنه كان “مُعلماً” فيها مثل اعترافهم بقدراته الخارقة على خوض الانتخابات بماكينة انتخابية محكمة التنظيم كانت وما تزال مضرب المثل لدى كل من يخوض غمار الانتخابات النيابية، ولم تخذله في اي موسم انتخابي، حتى في الموسم الانتخابي الاخير عندما حاول خصومه اغتياله سياسياً، فنجّاه الله وفاز بمقعده النيابي بوفاء ابناء المتن الذين احبهم دوماً وتفانى في خدمتهم مثلما نجّاه من الاغتيال جسديا عام 1991 بالتفجير الذي استهدف موكبه في انطلياس عندما كان في طريقه الى جلسة مجلس الوزراء في ما كان يعرف بـ”المقر الرئاسي المؤقت” في بيروت، والتي اتخذت القرار الشهير بحل الميليشيات وتجريدها من السلاح واستيعاب عناصرها في الجيش والمؤسسات الامنية، وكان بذلك الشهيد الحي الاول في مسيرة انهاء الحرب وتحقيق السلم الاهلي التي اطلقها “اتفاق الطائف” عام 1989 وكان اول شهدائها الرئيس الراحل رينه معوض.

 

وكذلك كان ابو الياس بارعا في هندسته الحلول للأزمات الطارئة او التي كانت عصية على الحل في ايامه، اذا كان المبادر الدائم الى هذه الحلول مثل مبادراته السياسية التي كانت تهدف الى الجمع بين المتباعدين لإيمانه بجدوى التعاون بين الجميع لما فيه خير لبنان وتعزيزا للوحدة الوطنية بين كل ابنائه ومكوناته السياسية والطائفية.

 

ومن ابرز صفاته انه كان يتجاوز صغائر خصومه وكبائرهم، لا سيما منها اولئك الذين كانت خدماته وانجازاته وعلاقاته الواسعة تولّد لديهم مركبات نقص، تدفعهم الى الوشاية به او طعنه بالظهر لدى مراكز مؤثرة، وعندما يبلغه شيء من هذا القبيل كان يردد مقولة الاعرابي التي لم ينسها يوما: “كلما طُعنت في الظهر اشكر الله على انني ما زلت في المقدمة”.

 

على ان انجازات “ابو الياس” لا تعد ولا تحصى، وكذلك خدماته المسجلة في قلوب من شملتهم والذين يحملون الوفاء له ولعائلته الصغيرة والكبيرة، وتعداد هذه الانجازات والخدمات لا يتّسع لها مقال ولكنها ماثلة على ارض الواقع، وهي تشمل كل المجالات في السياسة على مستوى الحلول التي طرحت لحل الازمة السياسية، كما في الادارة والاقتصاد والاجتماع، وكان هدفها الدائم اولاً وأخيراً خدمة الناس بلا استثناء، مثلما كان يردد دوماً.

 

ومثلما قال نجله دولة نائب رئيس مجلس الوزراء السابق الياس المر، امس، ان “هدفنا كبيتٍ سياسي النجاح في خدمة الناس”، وان “وصية ابوالياس هي خدمة الناس”، وان “هدف الانتخابات ليس الوصول إلى النيابة بل لنكون اصحاب مشاريع تساعد أولا الفقراء وثانيا لحل كل المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها الطائفة الأرمنية أو الطائفة الأرثوذكسية وسائر الطوائف”.

 

ولأنّ “من خلّف ما مات”، فإن “ابو الياس” مستمر بحفيده ميشال الياس المر الذي يحمل اسمه، وقد اختارته العائلة ليكون في المقعد النيابي الذي كان لجده في دائرة المتن، ليس توريثاً “ولو كنّا اليوم أمام توريث سياسي لكنتُ ترشحت أنا، والتوريث كان ليحصل لو تعيّن ميشال نائبا فور وفاة جده، والناس تقرر إذا كان هذا الشخص قادرا على تمثيله، ومن يتحدث عن التوريث في هذه الحالة يمارس الديكتاتورية، فجورج بوش الوالد كان رئيسا للجمهورية وابنه أصبح رئيسا أيضا”، على حد ما قال دولة الرئيس الياس المر لدى إعلانه ترشيح نجله ميشال قبل يومين لدى زيارته “حزب الطاشناق” في برج حمود.

 

لن تنسى الحياة السياسية “ابو الياس”، مثلما لن ينساه السياسيون عند تشكيل حكوماتهم او خوضهم الانتخابات، وعند البحث في أي حلول للازمات المستعصية منها وغير المستعصية، ومن يحمل ارثه السياسي من ابناء وانجال سيكون رفيقهم الدائم خصاله ومحبة الناس ووفائهم له، فالانجازات التي حققها على مستوى الدولة بإدارتها المختلفة والخدمات التي قدمها للناس هي من النوع المُستدام لا من النوع العابر… هي انجازات ماكثةٌ في الارض لأنها تنفع الناس وتؤتي أُكُلها كل حين، وليست الزبد الذي يذهب جُفاءً…