IMLebanon

بين لبنان والساعتين… ولبنان النهائي لميشال شيحا!

 

 

من حروب الطواحين التي يمارسها «المقاومون»، وصولاً إلى حرب الساعتين والتوقيتين التي أطلقها مشايخ العشيرة، يمرّ لبنان بتجربة هي أقرب ما تكون إلى حرب مصيرية… إن الطريقة التي يتصرف بها البعض، والوسائل التي يستخدمونها بتشويه وجه لبنان ومرتكزات وجوده الدولاتية تؤكد وجود نزعة عميقة داخل نفوس أعداء الكيان والعمل للتخلص منه بشتى الطرق والوسائل. لذا وجدنا أنّ أفضل رد على كل هؤلاء هو في اعادة التذكير بلبنان الحقيقي، لبنان ميشال شيحا كي يكون هذا «اللبنان» قبلة أنظار شبابه فلا يخذلونه ولا يهجرونه بل يؤمنون به ويدافعون عنه في وجه أخصامه وأعدائه على السواء وخاصة من فئة العقائديين المسلحين.

 

أولا: لماذا ميشال شيحا؟

 

إن استهداف فكر ميشال شيحا ورؤيته للبنان يعودان إلى جملة أسباب:

 

1 – لأنه المفكر الأبرز دفاعاً عن القضية اللبنانية، قضية الإنسان والأرض، قضية الحرية.

 

2 – لأنه راهن باكراً على فلسفة الليبرالية كأفق لرسم ملامح المجتمعات الإنسانية المتحضرة والمعاصرة وكسب الرهان في معترك الصراعات العقائدية في وجه الدوغمائيين!

 

3 – لأنه الأكثر تأثيراً على جيل كامل من القادة الاستقلاليين والمناضلين الشباب اللبنانيين وعلى رأسهم الشيخ بشارة الخوري.

 

4– لأنه ومنذ الأربعينات، تحدى الإيديولوجيات الرائجة آنذاك (الماركسية والاشتراكية والقومية) بسلاح الواقعية العلمية أي بجدلية الفكر والواقع وأثبت أنّ الإيديولوجية الحية تصدر عن الناس ولا تفرض عليهم!

 

5 – لأنّه رجل الصيغة اللبنانية بامتياز في تركيبتها وشروطها وتوازناتها الدستورية والتشريعية والإدارية والطوائفية! إنه واضع فلسفة الحياة المشتركة للبنان الكبير.

 

6 – لأنه الرائد في الفكر المسيحي- اللبناني- العربي، في كشف ومواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين ولبنان والمنطقة والعالم! فكان رائداً في هذا المجال ولا يزال..!

 

7 – باختصار لأنّه مهندس التجربة اللبنانية بفضل وعيه التاريخي لواقع لبنان ودوره ومصيره!

 

ثانياً: صورة لبنان ميشال شيحا.

 

إذا حاولنا أن نختصر ببضعة عناوين صورة لبنان كما رسمها ميشال شيحا لبدت بالخطوط والألوان التالية:

 

1 – عند ميشال شيحا كما لدى فرنان بردويل «الجغرافيا هي التي تؤثر في التاريخ» ولبنان ميشال شيحا هو ناتج «تداخل الجبل والبحر الذي منح لبنان الخطوط الأساسية لخصوصيته، فهما القطبان اللذان دارت حولهما، منفردين ومجتمعين وتحددت عبرهما تركيبة لبنان المعقدة وحتى المتعددة وفيها: الحركية والهضم السريع للغات الأجنبية، والتجارة، والسفر، هذه هي حصة البحر. أما مساهمة الجبل ففي كونه الملجأ، وخط الدفاع ضد الاضطهاد والتمسك بالخصوصيات».

 

2 – إن الجبل هو سلسلة لبنان الفقرية وهو الملجأ، إنه ثروة لبنان الأولى وحبّه هو حبّ للوطن. وأما البحر المتوسط فقد غيَّر غاية الله في التاريخ، وبديل أن يكون حدوداً تفصل بين الشعوب والدول أصبح وسيلة اتصال بينها، وهكذا فدعوة لبنان هي دعوة متوسطية بلد منفتح على الإنسان والعالم يأوي المضطهدين ويشكّل صلة وصل بين الشعوب، لهذا فإن لبنان «خلق ليكون بلد الحركة الحرة» وبالتالي «لا يمكن وضعه في قفص!».

 

3 – للبنان، في نظر ميشال شيحا، موقع استراتيجي مهم، فهو خطّ مرور يؤذي لبنان سياسياً واجتماعياً بفعل قوى الاحتياز والهيمنة أي بفعل التوسع العسكري، ولكنه موقع يفيد لبنان على الصعيدين الثقافي والاقتصادي بفضل تبادل الأفكار والسلع! ولقد تضاعفت المخاطر على لبنان بسبب قيام إسرائيل على حدوده الجنوبية، «فسواء تقدمت اسرائيل في تحقيق مطامعها أم تراجعت فإننا سنواجه مخاطر متنوعة… ومهما عملنا فإننا لن نعرف الهدوء. إنّ وجود إسرائيل على خطوتين منا سيكون له انعكاسات دولية على مستقبلنا… هذا ما يجب قوله بشجاعة للشعب اللبناني لأنه الحقيقة». «فنحن نعيش على حدود الخطر الدائم».

 

4 – إن القواعد التي تحكم حياة لبنان العامة، لدى شيحا، هي ثلاث:

 

• «ليس لبنان بلد الرأس الواحد (الزعيم) ولا بلد الانقلابات، بل هو بلد من واجب التقاليد أن تصونه من العنف» ومن الارتجال.

 

• على اللبنانيين أن يفضلوا دائماً التطور العميق، وإن بطيئاً، على الثورة والانقلاب!

 

• المطلوب للبنان مؤسسات ثابتة قادرة على مواجهة حركة اللاتوازن الوطني التي تدعمها وترعاها القوى الخارجية، مؤسسات تستلهم: واقع لبنان وموقعه ودوره!

 

5 – يعترف شيحا بوجود تباينات، وحتى تناقضات داخل التركيبة السوسيولوجية اللبنانية، ولهذا فهو يدعو اللبنانيين «لإنقاذ الحرية والاحتفاظ بملجأ ضد الفئوية السلطوية الظالمة، أي أنهم مدعوون لإنشاء دولة واحدة سيدة حرة، وفي هذا تكمن فكرة الوطنية اللبنانية والقيم التي ترتكز عليها، وفيها: التنوع الثقافي، وتعدد اللغات، والاندماج، والمآلفة المجتمعية القائمة على التنسيق وليس على الانصهار، والتوازن بين مختلف عناصر المجتمع» لأن لبنان في تعريف شيحا هو «بلد لأقليات طائفية متشاركة»! ولطالما ردد هذه العبارة في كتاباته!

 

6 – ولبنان ميشال شيحا هو «بلاد التوازن والاتزان… وعليه من المهم أن تبقى السلطة في لبنان دائماً بين أكثر الأيدي خبرة وأوفرها قوة. ولكن أصلح رجل بل أصلح جماعة لحكم لبنان سيظلون إلى ما شاء الله أولئك الذين يقوون على حفظ السلام فيه، «والسلام ليس فقط عدم الحرب، بل سياسية منصفة لا تأخذ بالعنف أقلية من الأقليات، لأننا نعيش في وطن روحي يحفظنا باسم روح الإيمان والتسامح والحرية من أقدم الأزمنة» فهذا البلد كان منذ الأزل وسوف يبقى إلى الأبد بلداً للتسامح الروحي ولاحترام الحريات المشروعة. «فقوَة لبنان تتمثل بروح شعبه، والمقاومة الروحية تتغلب على كل وسائل العنف.

 

وعليه، فإن لبنان بلد لا يناسبه في السياسات ركوب الرأس ولا مركب الانقلابات، بل هو بلد يتعين على التقاليد فيه ان تعصمه من متوسلي القوة!».

 

7 – ولبنان ميشال شيحا «هو بلد الخمسة آلاف سنة الذي يمتلك أبعاد التاريخ»، وتاريخه ليس تاریخ طائفة بعينها بل هو تاريخ كل الطوائف المتشاركة، ولبنان بسبب موقعه الاستراتيجي «هو محط أطماع الخارج وهو مصدر خطر على أبنائه لأنهم حرس دائم لهذا الممر التاريخي للشعوب». وإذا كانت الطائفية تفرّق بين هذه الطوائف، وهذا صحيح في الأحوال الشخصية، فإنّ شيحا لم يستخدم أسلوب الاستيهام في محاربة الطائفية، فالطوائفية عنده واقع اجتماعي يمتد على أكثر من ألف وخمسماية سنة، هذه الظاهرة الاجتماعية الكلية (الطائفية) لا يمكن إلغاؤها إلا بإلغاء الطوائف ذاتها، وإنما يمكن بحسب شيحا تخطيها: بتأكيد ما يفرّق بين الطوائف (الأحوال الشخصية المرتبطة باعتبارات دينية) وبالمقابل تأكيد ما يوحِّد بينها، بل وجوب ذلك وفيه أمران: وحدة الأرض ووحدة المصير، وبهذا أرسى ميشال شيحا أول نظرية في الشرق الأوسط تضع أسس المجتمع على قاعدة لاهوت الأرض ولاهوت المصير!

 

باختصار، إن لبنان ميشال شيحا هو لبنان النقيض لبعض السياسيين والدوغمائيين السطحيين: إنه لبنان الاستقلال، ولبنان الانفتاح ولبنان الاعتدال والتوازن ولبنان «الملتزم فكرياً وحضارياً وثقافياً بالبعد العربي ولبنان المتحسس الأول… وربما الأخير بمخاطر التجربة الصهيونية عليه وعلى العالم العربي والعالم، بهذا المعنى، فإن مهاجمة ميشال شيحا تعود إلى كونه أبا للفكرة اللبنانوية إذ هو واضع أسسها في أطرها الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والسياسية والجيو- سياسية والثقافية والأخلاقية، إنه رجل الإيديولوجية اللبنانية بامتياز، ولذا يصح فيه القول إنه «باني لبنان المعاصر»: لبنان البلد الصغير… والشعب الكبير!

 

ثالثاً: صورة لبنان «الآخرين»!

 

1 – إن لبنان الآخرين هو النقيض للبنان ميشال شيحا، هو في زعمهم بلد ناتج «اتفاقيات سایکس – بيكو» و «صنيعة الاستعمار» ورديف لإسرائيل، «ونموذج للإنعزال داخل الوطن العربي»، وخاصرة رخوة لسوريا، ودولة يتبنى بعض دعاتها شعار «قوة لبنان في ضعفه» وليس في قوته المستمدة من/والمستندة إلى قوة «مقاومته»، وفيه نظام محاصصة طائفية بما يجعله ساحة لصراعات القوى الداخلية والإقليمية والدولية، أبعد من ذلك، فإن لبنان «المصطنع» هذا هو تجربة يصعب بل يستحيل أن تعيش وهو ما تؤكده الأحداث فيه وحوله منذ أكثر من ثلثي قرن، باختصار، إن لبنان الكيان والدولة والنظام هو في نظر هؤلاء «خطأ جغرافي وتاريخي» في آن، ولا بد من العودة عن هذا الخطأ!

 

2 – إنّ تعبير «لبنان خطأ جغرافي وتاريخي» الذي يستخدمه قوميون وأصوليون يدّعون الانتساب إلى العروبية والإسلاموية هو تعبير أطلقه وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشه أرينز، وهذا ما يؤكد وجود تلاقٍ موضوعي بين هؤلاء على ثلاثة أمور، هي فعلياً أساس الصراع الدائر اليوم، كما بالأمس، في لبنان وحوله وهي: إلغاء الكيان، وتدمير الدولة، وتغيير النظام.

 

• إنّ لبنان الجغرافيا لم يقم على «اقتطاع الأقضية الأربعة من سوريا» لسبب بسيط وجوهري وهو أنه لم تكن توجد آنذاك دولة سورية بالمعنى الشرعي للكلمة، وبالتالي فنحن إزاء كذبة بل هرطقة تاريخية!

 

• ولبنان التاريخ عرف بمكوناته البشرية (بطوائفه) تجربة تاريخية هي جزء مركزي من مكونات الخصوصية اللبنانية التي شهد لها المؤرخون.

 

• إن الإندفاع المزدوج: الصهيوني والأصولي الاسلامي لتسخيف وإسقاط التجربة اللبنانية واستخدام كافة الوسائل المتاحة على امتداد ثلثي قرن، هذا الاندفاع يؤكد مدى أهمية وصلابة وصحة هذه التجربة الإنسانية الرائدة، ومدى خطورتها على الإيديولوجيات المنغلقة: الصهيونية والأصولية (بوجهيها الشيعي والسني).

 

• إن إسقاط مقولات: الاعتدال والاتزان والتوازن والديمقراطية والتشارك والحوار التي أرساها ميشال شيحا لصالح مقولات: الأصولية والعنف والتعصب والديكتاتورية والتسلط، يفتح الباب واسعاً أمام إسقاط البعد القومي للصراع العربي – الإسرائيلي بتغيير الهوية العليا من هوية قومية إلى هوية دينية، وبتسهيل اندلاع شرارة الفتنة بين الأصوليات السنية والشيعية، وهو أحد أهم الأهداف التي تعمل لها إسرائيل منذ نشوئها، فهذه الأصوليات التي تضع في رأس شعاراتها محاربة إسرائيل، والممانعة، والتصدي، تقوم عملياً بخدمة السياسة الإسرائيلية، وهو ما حذر منه ميشال شيحا مشدداً على أن لبنان بلد لا يُحكم بالعنف ولا يُحكم إلا بالحوار والاعتدال، ولا يحيا إلا بالحرية !

 

3 – إن لبنان الآخرين هو لبنان الضعيف اقتصادياً، فلكي يبرر هؤلاء عدم قابلية لبنان للحياة يعتمدون أسلوب الحرب الاقتصادية عليه: إفقار لبنان ومنع النمو وضرب المواسم السياحية بالحروب الفعلية أو بحروب التهديدات «التهشيل» الرساميل، وزيادة الدين العام وبامتصاص جزء مهم من ثروات البلاد ومن مداخيلها وباضطراب الأمن «لتطفيش» الشباب اللبناني إلى الخارج ومضاعفة الهجرة، وفرض الثنائية الأمنية وتحدي سلطة الدولة والقضاء، وشل المرافق والمؤسسات العامة، وفرض معايير فئوية وإيديولوجية على حرية الفن والتعبير واحتكار «المقدس» ورشق الآخرين بحرم «المدنس»!

 

خلاصة

 

لبنان الآخرين هو بلد مرشح للإلغاء بالتخلص منه تحت شعار الدفاع عنه على يد جماعة التسلط! أما لبنان ميشال شيحا فهو بلد باقٍ ومستمر لأنه ذو دعوة تاريخية يجسدها حوار الثقافات والحضارات والديانات، وهو بلد مهما حاولوا تشويه صورته، وإثارة الإضطرابات فيه، تنطبق عليه معظم معايير الدولة الحديثة كما تراها الأمم المتحدة، وفيها: دولة القانون، والشفافية في العمل السياسي ومكافحة الفساد واستقلالية القضاء وحياد قوى الأمن، والمراقبة المدنية للسلطة العسكرية، ووجود صحافة حرة.

 

وإجراء انتخابات دورية موضوعية وحرة واحترام حقوق الإنسان. صحيح أن لبنان بلد صغير… «ولكن تاريخه هو في الواقع جزء كبير من تاريخ عالمنا المعاصر» كما يقول فيليب حتي، أو كما يقول ميشال شيحا، «لبنان بلد صغير، بالتأكيد بلد جد صغير، أمة صغيرة…

 

ممكن ولكن ليس شعباً صغيراً أبداً….» إنه الشعب الذي حقق النهضة العربية الأولى، والمدعو إلى تحقيق النهضة العربية الثانية بمقدار ما يتسنى له أن يخدم شعار «لبنان أولاً» وبمقدار ما يتسنى له أن يعيش في بهاء الحرية!