IMLebanon

تجربة فؤاد شهاب: إستثناء لا قاعدة

 

ماراتون القيادة والرئاسة بين اليرزة وبعبدا (1 من 2)

 

لا تقاس المسافة بين قيادة الجيش ومقرّ رئاسة الجمهورية في بعبدا بالبعد الجغرافي، أو بالأمتار الفاصلة بين «اليرزة» و»القصر»، بل بالبعد السياسي الذي يفصل بين الموقع الماروني السياسي الأول في رئاسة الجمهورية وبين الموقع الماروني العسكري الأول في قيادة الجيش. الموقعان لم يشكّلا خطين متوازيين لا يلتقيان. التقيا مرات عدة وتباعدا مرّات. أحياناً انتقلت إحداثية اليرزة إلى قصر بعبدا وأحياناً أخرى انتقل القائد العسكري إلى منزله ضابطاً متقاعداً ليصل إلى القصر رئيس مدني يسعى لكي يكون القائد قريباً منه، أو له الكلمة الأولى في قرار تعيينه.

 

أحياناً فاقت قوة المؤسسة العسكرية قوة رئاسة الجمهورية وأحياناً أكثر طغت الرئاسة على القيادة. كأنّ الزمن أراد أن يترافق الموقعان في المكان والزمان. 13 رئيساً للجمهورية تعاقبوا منذ الإستقلال و14 قائداً للجيش، من دون أن يعني ذلك أنّ لكل رئيس كان هناك قائد للجيش. بين الرئاسة والقيادة والتأثير الماروني في السلطة والدولة والخيارات علاقات مدّ وجزر، وقوّة وضعف.

 

قصة موقعين

 

عندما يُحكى عن اليرزة يحكى بالدرجة الأولى عن قائد الجيش وليس عن وزير الدفاع. يبقى الوزير عرضة للتغيير ومحصوراً بالموقع السياسي بينما يبقى القائد رمزاً للإدارة العسكرية للمؤسسة. 45 مرة تغيّر وزير الدفاع ووزراء كثر مرّوا بأشكال عابرة، من الأمير مجيد أرسلان الذي كان وزيراً للدفاع عشر مرات، الأولى في العام 1943 والأخيرة في العام 1973، إلى الوزير الحالي العميد موريس سليم، من دون أن يشكلوا علامات فارقة إلا من خلال محاولة عرقلة عمل قيادة الجيش والتأثير على دور القائد في إطار اللعبة السياسية ومحاولة الضغط عليه كما حصل أكثر من مرة في السنوات الأخيرة خصوصاً بين الوزراء المحسوبين على «التيار الوطني الحر» وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي والقائد الحالي العماد جوزاف عون.

 

هي ليست قصة موقعين عسكري وسياسي بل قصة مقرّين أيضا ترافقا في الحجر والبشر كرمزين للسلطة والسيادة والإستقلال. ولذلك كانا الهدف الأول للإحتلال السوري في عملية 13 تشرين 1990 تحطيم صورتيهما لأنّهما شكّلا تحدّياً للنظام السوري منذ ما قبل الحرب. حتى عندما حصل الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 لم يدخل الجيش الإسرائيلي أيّاً من المقرَّين.

 

اليرزة والقصر أهمّ موقعين رسميين في لبنان. وزارة الدفاع تبقى أكبر وزارة في أهم موقع بينما لا تتمتع الوزارات الأخرى بهذه الميزة ويقيم أكثرها في مبانٍ مستأجرة من دون أن تكون المباني مشيّدة على أساس أنّ تكون وزارة. كأنّ كل الوزارات الأخرى تقيم بالإيجار وقيادة الجيش في وزارة الدفاع وحدها كأنّها أمّ الوزارات. بعدما تنقلت الوزارة في عدة أمكنة انتقلت في العام 1968 إلى المبنى الجديد الذي وضع تصميمه المهندس المعماري الفرنسي أندريه ووجينسكي، والذي يعتبر أكبر مبنى وزاري في لبنان ويضمّ قيادة الجيش ومقرّ وزارة الدفاع ومديرية المخابرات والمتحف العسكري.

 

أما قصر بعبدا فقد وضع حجر الأساس لمبناه الرئيس كميل شمعون في العام 1956 وقد عهد بالتصميم والتنفيذ إلى شركة سويسرية اعتمدت تصميماً هندسياً بسيطاً وحديثاً في آن معاً، ليكون مقرّاً لرئاسة الجمهورية التي كانت تقيم بالإيجار في قصر القنطاري في وسط بيروت على عهديْ الرئيسين كميل شمعون وبشارة الخوري. ولكنّ الرئيس فؤاد شهاب لم يقبل بأن يتمّ استكمال البناء لأنّه فضّل أن يكون مقرّ رئاسته في زوق مكايل قريباً من بيته في جونيه. واستكمل البناء الرئيس شارل حلو بعد إدخال تعديلات على التصميم الأساسي، وقد انتقل إلى القصر في بعبدا مع بداية العام 1969 ودشّنه باحتفال استقبال السلك الدبلوماسي . وفي 23 أيلول 1970 جرت مراسم التسليم والتسلّم للمرة الأولى في القصر الجديد بين الرئيس شارل حلو والرئيس المنتخب سليمان فرنجية. وقد شهد القصر أكثر من عملية ترميم وإعادة بناء وتجهيز خصوصاً في عهد الرئيس أمين الجميل ثم في عهد الرئيس الياس الهراوي بعدما كان تعرض للقصف المدمر أيام حكومة العماد ميشال عون العسكرية.

13 رئيساً و14 قائداً

 

تعاقب على رئاسة الجمهورية 13 رئيساً هم بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية والياس سركيس وبشير الجميل وأمين الجميل ورينيه معوض والياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، أربعة من بينهم كانوا قادة للجيش هم شهاب ولحود وسليمان وعون، ولكن ظروف وصول كل منهم مختلفة عن الآخر. وتعاقب على قيادة الجيش 14 قائداً هم فؤاد شهاب وتوفيق سالم وعادل شهاب وإميل البستاني وجان نجيم واسكندر غانم وحنا سعيد وفكتور خوري وابراهيم طنوس وميشال عون وإميل لحود وميشال سليمان وجان قهوجي وجوزاف عون. كذلك فإنّ ظروف وصول كل منهم إلى القيادة مختلفة عن الآخر. ليست قاعدة أن تكون قيادة الجيش بمثابة تجربة مؤهِّلة للإنتقال من القيادة العسكرية إلى القيادة السياسية ومن اليرزة إلى قصر بعبدا. ما حصل مع فؤاد شهاب كان استثناءً. ولكن ما حصل تباعاً مع لحود وسليمان وعون اعتُبِر بأنّه تكرار للتجربة ومحاولة لتكريسها كأمر واقع وكحلّ للخروج من أزمة الفراغ الرئاسي من خلال الربط بينها وبين الحديث عن ترشيح قائد الجيش الحالي العماد جوزاف عون لرئاسة الجمهورية بحيث يكون العماد الرابع على التوالي الذي يصبح رئيساً للجمهورية. ولكن حتى بين هؤلاء الثلاثة مع الرابع المستجد فإن التجربة مختلفة.

 

رئيس وقائد وزاهد

 

لم يكن فؤاد شهاب طامحاً إلى الرئاسة. ارتبط اسمه باسم الجيش اللبناني كمؤسِّس له وكأول قائد استمرت قيادته من العام 1945 حتى انتخابه رئيسا للجمهورية العام 1958. وقد بقي القائد الفعلي للجيش حتى العام 1969. المرّة الأولى التي تعرّض فيها شهاب للتجربة كانت مع استقالة رئيس الجمهورية بشارة الخوري في 19 ايلول 1952 عندما تمّ تعيينه رئيساً لحكومة انتقالية للإشراف على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأمين انتقال السلطة إليه. خلال ثلاثة أيام كانت هذه التجربة قد وجدت نهاية لها بعد ثورة بيضاء لم يقحِم فيها شهاب الجيش ولا أراد رئيس الجمهورية أن يزجّه فيها بعدما لمس عدم استعداد شهاب لمثل هذه المغامرة. المرّة الثانية عادت اللعبة إلى شهاب بعد الثورة الدامية في العام 1958 في نهاية عهد الرئيس كميل شمعون ولكن هذه المرة لم يكن رئيساً لحكومة انتقالية بل مرشحاً لرئاسة الجمهورية بتوافق أميركي مصري رجّح كفّته نتيجة مسارٍ طويل في العمل العسكري ومراسٍ متمسّك بإدارة الدولة بعيداً عن الزبائنية السياسية.

 

هكذا انتخب شهاب رئيساً للجمهورية وانتقل من قيادة الجيش إلى الرئاسة من دون أن يتخلّى عن القيادة العسكرية التي ظلّت تدين له وتلتمس توجيهاته. فكان الرئيس والقائد في جسد واحد وعقل واحد وقلب واحد. مع فؤاد شهاب وفي ظلّه لم يكن بإمكان قائديْ الجيش اللذين تواليا على القيادة في عهده أن يحلما برئاسة الجمهورية. اللواء توفيق سالم (من 9 تشرين الأول 1958 إلى 31 كانون الثاني 1959) واللواء عادل شهاب (من 1 شباط 1959 إلى 30 حزيران 1965) خرجا من القيادة إلى التقاعد بينما كان في إمكان شهاب، الذي أمسك بمفاصل المؤسسة العسكرية وباللعبة السياسية بقوة هذه المؤسسة والمكتب الثاني، أن يؤمِّن انتخاب عسكريٍّ يخلفه، أو أن يمدِّد لنفسه، ولكنّه رفض الخيارين وتمسّك بانتقال السلطة إلى المدني المتكامل شارل حلو. ربما لم يكن الرئيس حلو صاحب الخيار في اختيار قائد الجيش في عهده العماد أميل البستاني، وهو القائد الأول للجيش الذي حظي بهذه الرتبة التي صارت تميّز القائد عن بقية الضباط ولا ينالها إلا من يتبوأ هذا الموقع. ولكن على عهده حاول أن يحدّ من سيطرة الجيش الذي كان لا يزال يؤمن بأنّ شهاب هو قائده كما يؤمّن له أن يكون رئيس الظل الذي تتم استشارته في أمور الرئاسة والقيادة، وربما هذا ما جعل الرئيس حلو يعمل للخروج من تحت وصاية هذه السلطة التي كانت تمارس عليه من وراء الستار.

 

قائد خارج الخدمة

 

في نهاية عهد حلو راودت العماد إميل البستاني (من 1 تموز 1965 إلى 6 كانون الثاني 1970) أحلام الرئاسة من خلال الربط بينها وبين الدور الذي لعبه في توقيع اتفاق القاهرة في 3 تشرين الثاني 1969 بينما كانت استراتيجية الجيش والمكتب الثاني والنهج المؤيد لشهاب تسعى لتأمين عودة شهاب إلى الرئاسة. سقط العماد بستاني نتيجة هذا الطموح الذي أُلصِق به، ونتيجة تدخّل المكتب الثاني بحيث تمّت إقالته بقرار في مجلس الوزراء ليعيَّن محلّه العماد جان نجيم (من 7 كانون الثاني 1970 إلى 24 تموز 1971). ولكنّ فؤاد شهاب لم يقبل أن يعود إلى الرئاسة لأنّه كان يعتبر أنّه لن يستطيع أن يقوم بأي إنجاز وكان يرى دماء ستسيل وأنّ البلد ذاهب إلى متاهة كبيرة .

 

نتيجة هذا التردّد وصل سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية في 23 أيلول 1970 لتبدأ معه قصقصة أجنحة الجيش وارتباطاته مع الشهابية وفؤاد شهاب. في ظلّ هذه الحملة على الجيش استشهد العماد نجيم بحادث سقوط طوافة عسكرية كانت تنقله من لقاء مع الرئيس فرنجية في إهدن إلى وزارة الدفاع بينما استمرّت ملاحقة الضباط الذين كانوا مؤيّدين لشهاب ومحاكمتهم. ففي ظلّ هذه المعمعة التي ضربت هيبة القيادة تمّ البحث عن قائد جديد للجيش ووقع الخيار على العماد اسكندر غانم (من 25 تموز 1971 إلى 9 أيلول 1975)، الذي كان خرج إلى التقاعد فأعيد إلى الخدمة العسكرية بهذه الصفة. ولكنه لم يكن ليطمح إلى رئاسة الجمهورية في تلك المرحلة التي كان يشهد فيها الجيش تراجعاً في دوره وفي دور قيادته، في ظل متغيرات كثيرة طرأت على الساحة اللبنانية تحققت فيها توقعات فؤاد شهاب بعد اندلاع المعارك بين الجيش والفلسطينيين في أيار 1973 بعد عملية فردان في 10 نيسان من ذلك العام التي تمكّن فيها كوماندوس إسرائيلي من اغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين في وسط بيروت لتتم المطالبة بإقالة قائد الجيش بعد اتهامه بالتقصير الأمر الذي رفضه فرنجية. ولكن كان قد فات الأوان ودخل لبنان في الحرب ليشهد خلالها الجيش سلسلة انقسامات وليعود ويتوحّد أكثر من مرة ويشهد تجارب قاسية ومُرّة مع قادة جدد في تجارب جديدة بين مقرّ القيادة في اليرزة ومقرّ الرئاسة في بعبدا.

 

يتبع: من حنا سعيد إلى جوزاف عون:

 

هل صار الإستثناء قاعدة؟

 

(السبت 14 كانون الثاني 2023)