IMLebanon

موسكو وباريس تتسابقان على «تركة» واشنطن

 

باتَ واضحاً للجميع أنّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول القدس فاقمَ الخسائرَ الأميركية في الشرق الأوسط، وجاءت جولة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الأوروبّية لتؤكّد العزلة الأميركية حيال الموقف من القدس.

في الداخل الأميركي، الذي شكّلَ الدافعَ الأساسي لترامب إلى إصدار قراره، فاجأت استقالة نائبة مستشار الأمن القومي دينا حبيب باول البيتَ الأبيض. لم تذكر باول المصريّةُ الأصل والمنتمية إلى الطائفة القبطيّة أسباب استقالتها، لكن أن تتقدَّم بها فجأةً بعد يومين فقط من قرار ترامب حول القدس، فإنّ لهذا التوقيت دلالاته الواضحة.

والضربة التي تلقّاها ترامب بإعلان باول استقالتَها تعود لكونِها تَحظى بتقدير واحترام جامعين، خصوصاً أنّها الوحيدة بين مستشاري ترامب الكبار الذين لم تطاوِلهم أيّ من التحقيقات أو حتى التلميحات حول ملف التدخّل الروسي في الإنتخابات الرئاسية الأميركية. وباول التي شارَكت في صوغ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، لعبت دوراً مهمّاً في رحلات ترامب الخارجية الكبرى الى الشرق الأوسط وآسيا.

وقد تنتظر ترامب هزّةٌ أخرى تتعلَّق باستقالة وزير خارجيّته ريكس تيلرسون مطلعَ السنة المقبلة. صحيح أنّ هذه الاستقالة أحدثت لغطاً كبيراً خلال المرحلة الماضية وتمّ نفيُها مرّات عدّة، لكن يبدو أنّ تيلرسون الذي عانى ولا يزال من إهمال ترامب وتهميشِه يحاول أن يوقّتَ استقالته لتشكّلَ صفعةً لرئيسه، إضافةً إلى وجود بروتوكول ماليّ يستفيد منه شخصياً ويُطبّق على الوزراء الأميركيّين ولا يصبح سارياً قبل نهاية السنة الجارية.

وفي الداخل الأميركي أيضاً، خسارة الجمهوريّين للمرّة الأولى منذ أكثر من 25 عاماً لمقعد ولاية ألاباما في مجلس الشيوخ. صحيح أنّ فضيحة تحرّش طاوَلت المرشّح الجمهوري إلّا أنّ ترامب كان قد دخل على خط المعركة مباشرةً ورمى بثِقله، ما جعل الخسارة تُصيبه بسهامِها.

وبعد القرار، وقفَ ترامب وحيداً ومعزولاً داخلياً وخارجياً. والوعد الذي أطلقَه نتنياهو حول استعداد دول عدّة للاعتراف بالقدس عاصمةً لاسرائيل لم يتحقَّق، لا بل على العكس.

وخلال جولته الأوروبية، حاوَل نتنياهو «خداع» العواصم الأوروبية بالإعلان أنّه يُحضّر بالتفاهم مع البيت الأبيض لخطّة سلام بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين خلال الأسابيع المقبلة ستكون مختلفة عن السابق وستُحدث صدمةً إيجابيّة لتضمينِها تنازلات إسرائيلية نوعيّة لمصلحة الفلسطينيّين.

لكن المسؤولين الأوروبّيين لم يتجاوَبوا مع طرح نتنياهو، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأكثرَ وضوحاً في التعبير عن ذلك، حين اعتبَر أنّه من الصعوبة بمكان السير في خطة سلام بعد الآن.

والعناوين العريضة لهذه الخطة كانت قد تسرّبت من خلال الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي كان قد عَقد لقاءً فاشلاً مع وليّ العهد السعودي الامير محمد بن سلمان منذ نحو شهر.

يومها صُدِم عباس حين سمع ببقاء المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية، وبالتالي خروج الفلسطينيّين منها واعتماد دولة فلسطينية في غزّة يُضاف اليها بعض الأراضي في سيناء لتشكّل الدولة الفلسطينية ويتمّ نقلُ الفلسطينيّين اليها، على أن يصاحب ذلك استثمارات لبناء بلدات فيها إضافةً الى معونةٍ سعودية تبلغ عشرة مليارات دولار للسلطة الفلسطينية.

أمّا مصير القدس فيُترَك لمحادثات لاحقة بين الحكومتين الفلسطينيّة والإسرائيليّة. وكان لافتاً كلام وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان حول إعادة العرب الإسرائيليّين قريباً الى غزّة ورام الله.

فعليّاً، كان نتنياهو يسعى الى استمالة أوروبا وقطعِ الأوكسيجين عن أيّ انتفاضة ثالثة وجعلِ قرار القدس عاصمةً لإسرائيل بمثابة الأمر الواقع.
تُدرك أوروبا بالطبع صعوبة عودة واشنطن عن قرار ترامب، لكنّها تأمل بما يشبه تمييعَ القرار ووضعَه على الرفّ.

صدمة واشنطن، ومعها تل أبيب، كانت أكبرَ مع إعلان تشيكيا اعترافَها بالقدس الغربيّة عاصمة لإسرائيل. فصحيح أنّها الدولة الوحيدة في العالم التي أعلنَت اعترافَها بالقدس عاصمة لإسرائيل لكنّ مضمون القرار كان مزعجاً، إذ حدّد القدس الغربية فقط، ما يعني إبقاءَ القدس الشرقية خارج نطاق الاعتراف.

لذلك باشرَت الحكومة الإسرائيلية السعيَ لمنعِ حصول انتفاضة فلسطينية ثالثة متّكئةً على ردّ فعلٍ عربيّ ضعيف لم يتجاوز التنديد الكلامي، فسعت الى تطويق فكرة الانتفاضة من خلال مسارين، الأوّل سياسي والثاني أمني.

في السياسي، ركّزت اسرائيل على عدم اكتمال بنود المصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس» والتي كانت تقضي بتسلّم السلطة الفلسطينية قطاع غزة بكامله في العاشر من الشهرالجاري، وسط استمرار الخلاف على نقطتين: سلاح «حماس» ومصير آلاف الموظفين في ظلّ حكم «حماس».

وتُدرك اسرائيل أنّ القوة الدافعة الوحيدة لتنظيم انتفاضة جديدة هي حركة «حماس»، ما يجعلها تركّز على إشغالها بملفات أخرى، خصوصاً أنّ السلطة الفلسطينية دعت الى موجة احتجاجات سلمية، فيما دعَت «حماس» في وضوح الى انتفاضة ثالثة.

أمّا في المسار الأمني، فباشرَت إسرائيل حملة اعتقالات طاوَلت مسؤولين كباراً في «حماس» في الضفّة الغربية.

ووفق هذه الصورة، بدت واشنطن متعثّرةً في القرار حول القدس، لا بل إنّها بدت في موقع دفاعي في الشرق الأوسط، وفي وضعِ خسارة مزيد من أوراقها الثمينة في الشرق الأوسط نتيجة الرفض الفلسطيني لدورٍ أميركي في ملفّ المفاوضات مع إسرائيل.

ولذلك يستعدّ البيت الأبيض لطرحِ استراتيجيّة جديدة مطلع الأسبوع المقبل، كان قد انكبّ على وضعِها مستشار الأمن القومي الجنرال هربرت ماكماستر وُصِفت بأنّها ستعتمد سياسة هجومية تجاه إيران وروسيا في الشرق الأوسط.

والواضح أنّ ترامب يريد استعادة عنوان النزاع الإيراني – الخليجي، أو السنّي – الشيعي بعدما أدّت خطوته في اتّجاه القدس الى وضعِ هذا النزاع جانباً واستعادةِ مفردات النزاع ضدّ إسرائيل، ما منحَ إيران نقاطاً ثمينة، وهو ما ظهرَ واضحاً في الخطاب الأخير للأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله.

وكذلك، تُريد واشنطن الحدَّ من التقدّم الروسي الذي يحصل بسرعة في الشرق الأوسط على حساب النفوذ الأميركي. وليست روسيا وحدَها من يُحسن التقاطَ الأوراق والتعامل مع الظروف، بل أيضاً فرنسا التي تتقدّم في الشرق الأوسط مستفيدةً مِن تراجع واشنطن ومن انشغال بريطانيا وألمانيا بمشاكلهما الداخلية.

تكفي الإشارة إلى صفقات الأسلحة الفرنسية للشرق الأوسط، حيث تتصدّر السعودية وقطر ومصر لائحة هذه الصفقات، وهو ما لم يحصل منذ زمن طويل.

وفي المقابل، يُسجَّل فراغ في السفارات الأميركية لسبع دول شرق أوسطية، أبرزُها على الإطلاق السعودية حيث يتولّى القائم بالأعمال شؤون السفارة، وهو دليل آخر على الفوضى التي تعمّ الإدارة الأميركية.

في هذا الوقت يستعدّ الرئيس فلاديمير بوتين لانتخاباته الرئاسية، وهو يتوّج حملته الانتخابية بانتصاراته المدوّية في الشرق الأوسط، وهو ما عجز عنه الاتحاد السوفياتي سابقاً. ولأنّه بات اللاعبَ الأقوى والذي امتلك مفاتيحَ كثيرةً يعمل على ترجمتها بحرفية وبراعة، فإنّه وجَّه صفعةً للولايات المتحدة الأميركية مع إعلانه سحبَ قواته من سوريا.

وفي قراره هذا سعى بوتين لإحراج واشنطن ودفعِها إلى سحبِ قوّاتها، وهي التي تأمل في استعادة بعض مواقعها في المنطقة من خلال إمساك الجيش الاميركي بأوراق المراقبة والتنصّت والرّصد الأمني والتعاون مع «الحلفاء».

الكرملين يبدو في وضعٍ أفضل في سوريا بما لا يُقارَن مع البيت الأبيض. إذ إضافةً إلى قاعدة طرطوس البحرية المحصّنة باتفاقات طويلة الأمد مع الحكومة السورية، فهو وقّعَ اتفاقية لقاعدة حميميم لمدة خمسين عاماً مع إمكانية التجديد لمدة 25 عاماً إضافية.

كما أنّ عدد الجنود والخبراء الروس يتراوح بين أربعة الى خمسة آلاف عنصر، يضاف إليهم نحو ثلاثة آلاف عنصر من شركات أمنيّة روسية خاصة، وبضع مئات من رجال الشرطة العسكرية المنتشرة في ما بات يُعرَف بمناطق خفض التوتّر.

والانسحاب الذي أعلن عنه بوتين سيشمل فقط عناصرَ الوحدات الخاصة وسلاح المدفعية وملحقاتهما. والردّ الأميركي بأنّ القوات الأميركية ستبقى، سيكشف واشنطن أكثر وسيضعها في موقف دفاعي في سوريا.

وقمّة القدس التي عقِدت في اسطنبول أمس كرَّست أكثر فأكثر التلاقي في المصالح بين القطبَين الإقليميّين إيران وتركيا، وباتت المعادلة السياسيّة الإقليمية التي نسجَتها موسكو قادرةً على إزعاج واشنطن، لا بل مشاكستها والتشويش على مصالحها بمقدار إكبر. وهي معادلة اندفعت في اتّجاه إحراج حلفاء واشنطن من الدول العربية وتعطيل حركتهم وشلّ تأثيرِهم.