IMLebanon

موسى الصدر سعوديّاً! العبوا غيرها

السعوديّة تُحبّ السيّد موسى الصدر. أهلاً! هكذا فجأة، بعد نحو أربعة عقود على آخر ظهور له، وصمت عربي، سعودي ضمناً، سيُصبح الصدر عند «البخاري» شخصاً «أحبّ العرب جميعاً، إذ كان صاحب نظرة وحدويّة ترتقي بالإسلام إلى مصافي الوحدة والحضارة». إشارة: ليس «البخاري» هنا صاحب كتاب الحديث الأشهر، الفارسي وطناً، بل القائم بالأعمال السعودي في لبنان وليد البخاري. إنّه مجرّد تشابه بالأسماء.

قبل 55 عاماً، كان المرجع الشيعي الأوّل في النجف (كما يصفه الصدر) السيّد محسن الحكيم يُريد الحجّ. كَلّف الصدر مهمّة التواصل مع المسؤولين السعوديين، وطلب مِنه أن يسألهم السماح بإعادة بناء «المشاهد المشرّفة» في البقيع (المدينة المنوّرة) لأن فيها أضرحة كلّ مِن الأئمة: الحسن بن علي، زين العابدين، الباقر والصادق وغيرهم. يقول الصدر إنّه أجرى اتصالات بالشيخ السعودي محمد سرور الصبان، حول المسألة، فاقترح الأخير «أن نشترك في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي لمناقشة القضيّة مع علماء الوهابيّة، فاشتركنا وتمكّنّا مِن أخذ قرار بإحياء الآثار الإسلاميّة (في الحجاز) ومِنها بيت النبي، بيت عبد المطلب، غار حراء وغار ثور، وكلّها موجودة ولكنّها مهملة إلى حدّ بعيد». هذا ما يذكره السيد الصدر، حرفيّاً، في مقابلة مع «الحوادث» عام 1973.

ليس تفصيلاً أنّ مَن أجرى تلك المقابلة مع الصدر هو المصري جلال كشك، التائب عن ماركسيّته إلى الوهابيّة، والحاصل على «جوائز» السعوديين لما كتبه في مدحهم. المُهم، أين أصبحت مطالب الصدر؟ لا شيء. أكثر مِن نصف قرن ومشايخ الوهابيّة على موقفهم مِن تلك الآثار. بالتأكيد، لم يكن الصدر سطحيّاً لا يعرف عقائد القوم، لكنّه، وللتاريخ، حاول وترك لنا ذكرى تلك المحاولة. حاول، وقد نزل إلى عقولهم، قائلاً: «يُمكنها أن تشبه نصب الجندي المجهول. تُذكّر المُسلم بمواقع الاستشهاد والبطولة والفداء». حتّى هذا لم ينفع. ليس مثل الصدر مَن لا يَعلم أنّه في نظرهم، بل في فتاواهم، ليس أكثر مِن «قبوري كافر مشرك». بالمناسبة، إنّ الصبان، الشيخ السعودي الذي تواصل معه الصدر، كان معروفاً عنه انفتاحه ونزعته الإصلاحيّة، وهذا ما كلّفه دخول السجن نحو عامين، قبل أن يُعفى عنه ويُستفاد مِن خبراته التقنيّة.

قبل 9 سنوات مِن تلك المقابلة، حضرت تلك المسألة في كلام الصدر أيضاً، ضمن محاضرة له في «الندوة اللبنانيّة» عام 1964. قال: «هناك أمل للمرجع الأول (الحكيم) في هذه الرحلة (الحجّ) يتمنى تحقيقه، وهو إعادة تنظيم المشاهد المشرّفة الواقعة في المدينة (المنوّرة)، ولعلكم لا تجهلون، أيها السادة، أنّ قبر فاطمة بنت محمد وقبور الإمام الحسن بن علي والإمام علي بن الحسين، منشئ «الصحيفة السجادية»، والإمامين الباقر والصادق، اللذين ملآ الدنيا بعلومهما الفقهيّة والأدبيّة والطبيعيّة، وكذلك قبور جمع مِن أجداد النبي وأصحابه… هذه القبور التي أغنى أصحابها العالم أجمع تراثاً، ودفعوا العرب والمسلمين، بشكل خاص، فأغنَوا التاريخ حضارة. هذه القبور كانت معمّرة منظّمة وكانت مزارات للناس والحجاج». ويضيف الصدر، في فقرة تلخّص موقفه، قائلاً: «منذ أقلّ مِن أربعين سنة، تصدّى الحكّام هناك ونفّذوا فتوى شاذة لبعض الفقهاء وهدموا هذه المشاهد». إنّهم الحكّام والفقهاء معاً!

تُريد السعوديّة اليوم أن تَغرق في حبّ الصدر، وأن يَمدح ممثّل دبلوماسيّتها في لبنان «اعتداله» وسعيه إلى «الوحدة»… جيّد، فلتعطه ما سعى إليه قديماً، وهو القائل لهم بأنّ تلك المحاولة تهدف إلى «علاج الجرح المحزن الذي لا مسوّغ أصلاً لوجوده ولا داعي لاستمراره». ذهنيّة آل سعود لم تتغيّر، وكثيرون ما كانوا ينتظرون تسريبات «ويكيليكس» لمعرفة ذلك، ولكنها جاءت «نور على نور». في برقيّة مِن المدير العام لإدارة الدول العربيّة في السعوديّة، ناصر البريك، إلى وزارة خارجيّة بلاده، يذكر أن القائمة على إدارة «جمعية مؤسسات الإمام الصدر» جاءت وطلبت مساعدة للجمعيّة (الخيريّة). يأتيه الرّد في البرقيّة نفسها: «حيث لم تصدر إلى الآن التوجيهات السامية حيال مسألة مساعدة أهل السُنّة في لبنان، وفقاً لما تم رفعه للمقام بالمحضر الموقع مع جهات الاختصاص، فكلّ ما يُقدّم الآن مِن مساعدات هي بشكل فردي عن طريق وزارة الشؤون الإسلاميّة وغيرها مِن المنظّمات، لذا فإنّ تقديم مساعدة للشيعة، حتّى وإن كانت لجمعيّة مؤسسات الإمام الصدر، ربّما يُفهم مِن قبل السُنّة بشكل خاطئ». تحمل هذه الوثيقة المسرّبة الرقم 27708. ثمّة وثيقة أخرى، مماثلة، إنّما بتوقيع سعود الفيصل. هذه هي أدبياتهم. هذه أخلاقهم. كم يبدو مؤلماً أن تُقرّر السعوديّة، اليوم، المتاجرة باسم موسى الصدر. هذا الإمام الذي لم يرحمه أحد حيّاً، وظلّ سرّ خطفه عاراً، على الجميع.

للسعوديّة، وللجميع، موسى الصدر يعني: «إسرائيل شرّ مطلق، قتالها واجب والتعامل معها حرام». موسى الصدر، كما قال يوماً، يعني أن «القضيّة الفلسطينيّة ليست ملك أحد. إنّها مسؤوليّة الأمّة». وكذلك، لِمَن يهمه الأمر، موسى الصدر ليس ملك أحد بعينه… ولن يكون.