IMLebanon

الموسيقى ممنوعة بأمر الفقيه!

 

“علّوا” الموسيقى، “علّوها” بعد، علّها تعطي الموت حياة والحزن فرحاً والقساوة ليناً… فالموسيقى، كما لغة العقل، يجب أن تصدح عالياً وتعمّ، أفقياً وعمودياً، بعدما باخت كل الكلمات وأصبح السواد شديداً ثقيلاً مقيتاً! لكن، ماذا لو أطلّ من يقول أن الموسيقى حرام وأن أصوات الرصاص أجمل من سيمفونيات بيتهوفن وموزارت وفيفالدي؟

 

تفرّدت شاشة المنار، التابعة لـ”حزب الله”، دون كل الشاشات، بعدم نقل حفل “صوت الصمود” من معبد باخوس في بعلبك، مع العلم أن الغاية منه بعث الصمود في خلايا اللبنانيين الذين يعيشون أسوأ اللحظات وأقساها. فهل “حزب الله” يراقب الألم من وراء الزجاج؟ هل يرى في الموسيقى نشازاً؟ لو كان “الحزب” رجلاً لقلنا: هذا ذوقه. تلك إرادته. إنه خياره. لكن هو “حزب الله” الذي نراه يأخذ لبنان، شيئاً فشيئاً، رهينة خياراته. فماذا بينه وبين الموسيقى؟ وماذا بين الأديان والموسيقى؟ وماذا بين الإسلام بالتحديد وعالم الموسيقى؟

 

حين يرى، من رأوا، في صوت الرصاص أجمل من ألف سيمفونية وسيمفونية نكون أمام مشكلة حقيقية. وحين يقارن، من قارنوا، بين سماح “حزب الله” للبنان بإقامة أمسية بعلبك وبين ما فعله داعش في تدمر نكون أمام مشكلة أخرى. فهل يستند بالفعل الى فتاوى دينية أم الى ثقافة وهدف؟

 

يتحدث القاضي الشيخ خلدون عريمط، رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام، عن وجود مدارس فقهية قد تجيز الموسيقى وأخرى قد تستحسنها وهناك مدارس أخرى تراها مكروهة. أما من يحرّمونه فقلّة. وقد اعتمد بعض العلماء على الإستحسان لما ورد في أحاديث الصحابة، أن الرسول عندما استقبل في المدينة المنورة على أثر هجرته من مكة بالأناشيد وموسيقى ذاك الزمان وهي الدف. لهذا أجاز العلماء الغناء والموسيقى التي لا تثير الغرائز واعتبروها مباحة، أما الموسيقى التي تثير الغرائز وتدعو الى اللهو وضياع الشباب والشابات فاعتبرها كثير من العلماء مكروهة.

 

لكن، من يُحدد نوعية ما نسمع؟ وهل ما سمعناه من موسيقى، عزز فينا بعض الأمل، مكروهاً؟ يجيب الشيخ عريمط بالقول: “يستطيع الإنسان بالفطرة أن يميز بين أغنيات فيها معاني الوطنية والفروسية والإيمان والوحدة والخير وهذه كلها مباحة”. ويستطرد: “أما ما حدث في بعلبك قبل أيام فتضمن موسيقى هادفة فيها راحة للنفس واطمئنان وهي لا تصل بالتالي الى درجة الإكراه أو التحريم، لكن رفض “المنار” المشاركة في عرض الإحتفال سببه رؤية “الحزب” لمنظور سياسي أو مذهبي معين. وهو منظور لا يطبق على الآخرين. بمعنى أن ما يراه “حزب الله” لا يلزم المسلمين. فإذا طلب من المسلمين مثلاً أن يصوموا الدهر فنحن غير ملزمين به، إذ لا نص شرعياً به، بل علينا بما قاله الله والرسول وما دون ذلك أقوال بشر يصيبون ويخطئون، مهما كانوا خلفاء أو أئمة أو علماء أو فقهاء. هذا مجرد اجتهاد. و”حزب الله” لديه رؤية دينية وسياسية خاصة به غير ملزمة لبقية اللبنانيين، لأن رؤيته لا تنطلق من بيئة لبنانية إنما من رؤية هو يراها في ولاية الفقيه. وكثيرون من المسلمين لا يشاركونه هذه الرؤية ومثلهم، حكماً، لبنانيون آخرون. وليس له أو لغيره فرض رؤيتهم على الآخرين. لبنان لا يُبنى على مقاس حزب أو تنظيم أو حركة بل وفق رؤية جميع اللبنانيين”.

 

كثير من أتباع “حزب الله” تباهوا بأنهم لم يمنعوا الإحتفال الموسيقي في بعلبك كما فعل، من فعل ذلك، في تدمر. وهذا التباهي في حد ذاته سلّط الضوء أكثر على قرار منع عرض الإحتفال. أهي فتوى دينية؟ أهو من أفتى بها؟ أم هي فتوى إيرانية؟

 

مديرة مركز التوثيق والأبحاث الإسلامية – المسيحية ومنسقة الماستر في كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف الدكتورة رولا تلحوق واضحة، كما شمس بعلبك، في ما تقول: “كل الفنون نشأت من اجل الأديان وتمجيدها. الموسيقى ألّفت للصلاة. الرقص انطلق للصلاة. الثياب الجديدة، الاناشيد، التراتيل، الرسم، بناء الكاتدرائيات، المسرح… كلها انطلقت من أجل الصلاة والأديان. آلة الأورغ وجدت من أجل الصلاة في الكنائس. والهنود يرقصون وهم يمجّدون الله.

 

الموسيقى لا تشرذم الناس بل السياسة هي التي تفعل ذلك. السلاطين والأئمة كانوا يصغون الى الموسيقى ويؤلفون الشعر ويحضرون مجالس الرقص. ولم يكن هذا عيباً. فلماذا أصبح اليوم؟ المملكة العربية السعودية انفتحت على الفنون. أما هنا فنسمع عمن يعلنون عن فتاوى بمنع الموسيقى والفنون. هذه ليست قصة فن بقدر ما نرى فيها مسألة تغيير ثقافي. هناك من يصرّ على ارتداء الأسود هنا كما يرتدي الإيرانيون والأفغان، في حين يرتدي 8 في المئة فقط لا غير الزي الأسود في طهران. هذا تغيير ثقافي في المشهد العام لا يمت الى الدين بصلة. هناك من يرى في السباحة “مكروهاً” ويمنع السباحة في الحوض الأولمبي في مجمع الحدث – الشويفات الجامعي. هناك من يطبق نظرياته وفتاويه التي لم تكن موجودة يوماً”.

 

هناك من يحاول “أسلمة” الثقافة على هواه. هذا ما يفعله “حزب الله” وهذا ما لا يرتضيه المسلمون قبل المسيحيين.

 

ما رأي السيد جعفر محمد حسن فضل الله بفتاوى منع عرض حفلات الموسيقى والغناء؟ يلفت السيد فضل الله الى أن موضوع الموسيقى في ذاته هو جزء من المواضيع التي يتمّ بحثها من الناحية الفقهية ويقول: هناك فتاوى لا تحرّم الموسيقى. ووالدي، سماحة الشيخ فضل الله، كان يتوقف عند المضمون فإذا بدا باطلاً ويثير الفتن والغرائز اعتبر محرماً. لكن، لا اعتقد أن ما يجري اليوم مرتبط بالموقف الفقهي بل بعناصر أخرى. وإذا ذهبنا الى إيران سنجد مروحة واسعة من هذا الفن على شكل سيمفونيات وملاحم وموسيقى تصويرية، وحتى في قراءة لحن العزاء في عاشوراء وتلاوة القرآن. الموسيقى موجودة دائماً. ويفترض بالتالي مقاربة الموضوع علمياً بلا سجالات”.

 

العالم ينفتح. وزارتا التعليم والثقافة في المملكة العربية السعودية أقرتا تدريس الموسيقى في مناهج التعليم. كل شيء يتقدم الى الأمام إلا هنا. كان يمكن ألا ينتبه أحد الى امتناع شاشة المنار عن عرض الإحتفال لو لم يكن كثير من اللبنانيين يشعرون أن “حزب الله” بنى على هواه دويلة في قلب الدولة، والفتوى التي نفذها قد تتحول الى قاعدة، وقد يطالب بتطبيقها، وقد ينعت ذات يوم (إذا شاء) من يقوم بها بالخارج عن الإحترام العام، ما دام يُطبق فتاويه في العلن ويحرم جمهوره من عيش اللحظة الجميلة، وكم باتت نادرة، مع سائر اللبنانيين.

 

نعود الى الدكتورة تلحوق التي تلفت الى أننا نعود، بحسب مجاري الأمور، الى الوراء. فمنذ مجيء الإسلام، قبل 1400 عام، لم تكن هناك مشاكل. كانت هناك أديان كثيرة ليست إبراهيمية سماوية، والجميع عاشوا تحت حكم ذاتي. وكلهم عزفوا وغنوا من أجل تمجيد الله. فالفن جمال ولولا ذلك لما بنيت أصلاً بعلبك التي هي، في ذاتها، معبد.

 

الموسيقى علاج وهي اللغة العالمية بلا كلمات. فهل اختار، من قال لا للموسيقى، الصمت أم اختار ألا يسمع جمهوره إلا لغته؟