IMLebanon

المسلمون وانفصام الشخصيّة  

حتّى الأمس تحديداً ظننتُ لفترة طويلة أنّه بمقدورنا قراءة كل أمرٍ قراءتيْن، وساهمَ في تكريس هذا الظنّ أنّ قراءات كثيرة في تاريخنا الإسلامي انقسمت بين فريقيْن “موافقٌ” و”مخالف” أو “مصدّقٌ” و”مُكّذب”، أو “مؤمنٌ” و”كافر” أو “مُقَدِّسٌ” و”مُكفّر”، وما بين الاثنتين منطقةٌ رماديّة هي منطقة العوام والغوغاء، حتى وجدتُني بالأمس أصطدمُ بحال اغتيال السفير الروسيّ في تركيا أندريه كارلوف، وبمعزلٍ عن “القتل” وتاريخه الإنساني منذ بدء البشريّة، و”الاغتيال السياسي” وتاريخه الدموي لم يعد يُطاق الكثير ممّا تفضحه مواقع التواصل الإجتماعي من واقع المسلمين المأزوم فازدواجيّة القبول بـ”معيار” القتل بين سوريا واليمن مخيف، حتى ازدواجيّة تعاطي الإعلام العربي وتسليطه الضوء على طفل سوريّ يموت من الجوع في مضايا والتعتيم الإعلامي على طفل آخر يموت من الجوع في اليمن، “إنّو بدّك عقل يحمل” هذه اللاأخلاقية التي تفرض نفسها عليك طوال أربع وعشرين ساعة يوميّاً!!

أن يُصنّف “قاتل” السفير الروسي في أنقرة بوصفه “بطلاً قوميّاً” هو مسألة تحتاج إلى وجود قاضٍ فقيه كالإمام عليّ (كرّم الله وجهه) في يومنا هذا ليقنع هؤلاء بأنّ القتل في الإسلام قاعدة لا تتجزأ لا فقهياً ولا أخلاقيّاً ولا إنسانياً، قتل النّفس له حدود شديدة ضيق المساحة في التشريع الإسلامي، ولكن ماذا نفعل مع “مشايخ” الفتاوى الذين يبرّرون القتل مئات المرات يومياً ثم نراهم يستنكرون ويندّدون باغتيال السفير الروسي خوفاً من الحكّام وسياساتهم!!

المسلمون مأزومون، يتلاعب بهم صبيان الشياطين وأهواء النفس، في كلّ مرّة أستمع فيها إلى برامج تخصّصها إذاعة أو محطّة ليطرح المسلمون فيها أسئلتهم على شيخ أو عالم أصاب بالدّهشة وأتساءل كيف توصّل عقل هذا السائل إلى هكذا أحجية، وأحياناً أتساءل ما إذا كان هكذا سؤال ليخطر في بال الشيطان نفسه، ثمّ يسألونك كيف يقوم بعضهم بتفجير أنفسهم أو اقتحام سوق شعبي لمناسبة عيد الميلاد في برلين، أو أن يختطف طائرة بركابها ليصدم بها برجاً في أميركا؟!

صوت الشيطان أعلى من صوت العقل، ما الذي كان يحتاجه العالم أكثر من مشهد قاتلٍ يغتال سفيراً يفترض أنه كان يقف خلفه ليحميه ببضع رصاصات في ظهره، فيما كان البعض من إعلاميّي تركيا يعلنون أن السفير الروسي شوهد ملقىً على بطنه، فيما الرجل ملقىً على ظهره في وضعية المصلوب، وكثير من المسلمين يصفقون لغريزة الانتقام في ذواتهم المترنّحة من مشاهد القتل في سوريا، فيما إعلام الغرب يتناقل بضع كلمات ويعيد بثّها مراراً وتكراراً: “الله أكبر.. محمّد.. الجهاد”!!

هذا ليس “الإسلام”، و”الإسلام” ليس ما فهمته عقولٌ قاصرة بقدرة الجهل من تحريض هذا الشيخ أو ذاك، وليس “الإسلام” ما قرّرته هذه الفتاوى أو تلك، ولا ما يُحاضر به هذا الشيخ أو ذاك، ولا هذا المفسّر أو ذاك، من يتجرّأ على الادّعاء بإحاطته بالإسلام إحاطة تامّة، ما بالنا تركنا القرآن وقدّسنا التفاسير، وتركنا النبيّ صلوات الله عليه وقدّسنا كلّ ذي لحية وعمامة، من يدفع بالمسلمين البسطاء إلى قاعِ الظلمات؟ أليس كلّ عقلٍ قاصر من عقولنا تحوّل إلى إله ونبيّ وفقيه وقاضٍ وجلاد وضحيّة وقاتل؟!

بات القتل فوق طاقة تحملنا، اليوم حلب هي التبرير مثلما كانت سياسات أميركا هي المبرّر، ومثلما كانت فلسطين وضياعها هي المبرّر مثلما كان الاستعمار هو المبرّر، كلّ قتلٍ لا يجدد أسباباً تخفيفيّة بالقتل، سواء أعجبنا هذا أم لم يعجبنا… رحم الله الإمام علي حين ردّ على الخوارج بقوله: “لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخُفّ أولى من أعلاه”.