IMLebanon

حتى لو أمّي فاسدة!

 

 

المعكرونة بلحمة كانت اللحظة المفصلية في حياتي، وتحديداً عندما تذوّقتها عند أحد الأصدقاء، واكتشفت في تلك اللحظة أن أمّي لا تحضّر أشهى معكرونة في العالم، وإنما والدة صديقي تمتلك مهارات معكرونية تتفوّق بأشواط على أمّي. وكأنما أنا الذي تَربّيت على تصديق حقيقة كونية، بنيت عليها معتقدات وتحليلات وتفضيلات وأهداف، هكذا ومن أول لقمة، تلاشت في دماغي معكرونة أمّي ومعها كميّة غير قليلة من الإيمان الراسخ على طناجر وملاعق وصواني ستانلس، إتّضح أنها تحرتق أكثر مما تطرب العنفوان والشهامة.

أمي، بالمعكرونة، كانت فقط تريد إطعامي والاهتمام بي… لكن المجتمع حاول طوال سنوات إقناعي أنّ أمي كانت تريد اعترافاً منّي بأنها أمهر طاهية في العالم، وعلّمني أن أفضّل كل شيء يخصّها على أي شيء آخر في الدنيا… المجتمع، شَوّه رسالة أمي وشَوّه علاقتي بها، فهي لم تكن تدّعي في أي يوم أنها تحضّر أفضل صحن معكرونة، وجلّ ما كانت تريده هو إضافة عاطفتها في كلّ طبق حتى تريني مدى حبّها لي.

فهمتُ، وأخيراً، أنّ أمّي ليست الأفضل في كلّ شيء، ولكنها أفضل من يحبّني ويعتني بي.

أستطيع أن أحب أمي بلا شروط، وأستطيع بلا تفكير أن أبذل حياتي من أجلها. لن أتردّد ثانية في غسل رجليها ويديها والاعتناء بها وتقديسها وإضاءة شمعة أمام صورتها، لأنها علّمتني أنّ الحبّ ليس أعمى وإنما الغباء أعمى، وعلّمتني أنّ «بَيّ رفيقك في يكون أقوى من بَيّك»، ولقّنتني منذ الصغر أننا لسنا أفضل الناس، لأنّ جميع الناس خير وبركة.

وكلّما كان يتحلّق الزوّار في بيتنا حول موقدة حديث اجتماعي ذكوري أو حتى نسائي، بأننا نحن الأفضل، بدءاً من ضيعتنا مروراً بأرضنا وعاداتنا وتقاليدنا وتاريخنا وثيابنا وصلاتنا وسيارتنا… كانت تحرص قبل موعد النوم أن تخبرني أنّ المكدوس في القاع أطيب من مكدوسنا، وكذلك الكشك في بعلبك، والمجدرة في مرجعيون، والفتّة في النبطية، والحمص بطحينة في طرابلس، والسمك المقلي في صيدا، والكبّة في زغرتا، والمدردرة في كسروان، والهريسة في بحمدون، والسمكة الحرّة في بيروت، والمازة في زحلة.

كانت تربّت على كتفي بحنان وتهمس في أذني، الحمد لله لدينا طعام على مائدتنا ومياه في أكوابنا وثياب في خزانتنا وعقل في راسنا… لكننا لسنا دائماً الأفضل، وكلّ ما علينا فعله هو الاجتهاد من أجل أن نكون الأفضل، ونستطيع تحقيق ذلك بالصلاة للربّ في المنزل، والصلاة للوطن على الطريق، لأنّ هذا الزفت تتشابَك عليه مشاكل اللبنانيين مهما اختلفوا، وتتعانق آمالهم مهما تباعدوا، وتسير طموحاتهم يداً بيد مهما اتّسعَت الهوّة بينهم… فنحن كلّ ما نملك هو عقل للتفكير وركبتين للركوع والتضرّع إلى الله، وسواعد لنبني بها وطناً يجمع الأجمل من كلّ منطقة والأبهى من كلّ طائفة وضيعة، فاعط دائماً أجمل ما لديك واعترف بكلّ جيّد يمتلكه الآخرون.

هي لم تقل لي كثيراً من الأشياء، لكنني استنتجت من كلامها وتربيتها أنني إذا اكتشفت يوماً أنها فاسدة، فلا بدّ أن أحاسبها وأصدر بحقّها مذكرة بحث وتحرّ، وأقدّمها أمام القضاء المختصّ حتى تنال العقاب المناسب على كل ذنب اقترفته.

فحتى لو كانت أمي فاسدة، لا يشفع لها صحن معكرونة ولا حبّ ولا تاريخ ناصع الحنان… لأنّ لَو أكل والدة صديقي كان سيئاً لكنتُ انتقدتها وانتقدتُ أكلها وقاطعت رفيقي ونشرت إرث عائلته بالأكل على صنوبر بيروت… ألا أرضى على أمّي ما أرضاه على أم صديقي؟