IMLebanon

رحلة إلى «ناغورني قره باغ»

 

أن تقرأ عن الحرب وتعيش أحداثها في مخيّلتك أمر عادي، أمّا أن تكون في قلبها، فنوستالجيا الصمود والبقاء والقدرة على النضال، والجلوس على خط النار، تتطلّب إيماناً كبيراً لتخطّي تجارب السقوط في الخوف، ومن ثم التراجع والاستسلام.

لم يكن النهار في «ستيباناكرت» عاصمة «ناغورني قره باغ» عادياً. كل شيء كان متوقعاً منذ الصباح، حيث بتنا ليلتنا في منطقة غوريس، البعيدة نحو 120 كيلومتراً عن ستيباناكرت، نظراً لخطورة الوضع الأمني هناك.

 

منذ صباح الخميس، ولدى لقائنا كفريق من الصحافة اللبنانية مع بعض العائلات النازحة من إقليم ناغورني قره باغ، هرباً من الموت والنار، كانت بعض قنوات التلفزة تبث صافرات الإنذار، إيذاناً بقصف محتمل قد يطال السكان المدنيين، ولإنذارهم لأخذ الاحتياطات والنزول إلى الملاجئ.

 

من هنا، اعتقدنا أنّ ما ينتظرنا يتجاوز مرحلة القراءة في كتاب، إنما أن نكون شهوداً على مخطط كبير تُرسم خطوطه العريضة بالنار والرصاص.

 

الطريق إلى ستيباناكرت لم تكن مريحة. المكوث طويلاً في مكان واحد على الطريق غير محبّذ، «جيش الدفاع» الآرتساخي، كما يسمّونه الأرمينيون وشعب غره باخ، موجود بشكل تكتيكي على الطرقات لمراقبة الحدود بين غوريس وقره باغ.

 

الطريق خالية، واذا صادفنا أيّ شاحنة فإمّا تكون عسكرية أو مدنية، تقلّ صحافيين وإعلاميين أتوا من بلدان مختلفة لتغطية التطورات الميدانية. طبيعة المنطقة كما معلوم جبلية، واستخدام الطرق البدائية في الحرب واضح، إذ يمكن المشاهدة بالعين المجرّدة كيف يتمّ شبك حبال حديدية بين جبل وآخر لاستهداف الطائرات في حال وجودها على مستوى منخفض.

 

في قلب العاصمة، عاصمة قره باخ، المشهد هو كيوم من أيام خريف تشرين، إنما ليس كأيّ تشرين آخر، بل شهر تحمل أيامه برد الجوع، والنزوح، ورائحة الموت. الطرقات تفتّش عمّن يؤانس عذريّتها. المواطنون يفترشون الملاجئ ليس خوفاً، إنّما من أجل غد قد يتطلّب منهم حمل السلاح للدفاع عن قضيتهم. الحياة في العاصمة خفت ضجيجها، وبات الناس يضبطون تحركاتهم على دقات صافرات الانذار، فعندما تنطلق، الجميع إلى الملاجئ در. بمختصر، صمتٌ يتحدث لغة الحرب.

 

استراحتنا في مقرّ إقامتنا لم تكن طويلة. أخذنا التعليمات من الفريق العسكري المختص، في مبنى قريب تحوّل إلى غرفة عمليات للصحافيين وبعض الجنود الارتساخيين، وحتى الروس منهم الذين كنا نصادفهم. أُعطيت كل التوجيهات والتحذيرات، وتمّ تحديد الهدف. بلدة «شوشي» الأكثر عرضة للقصف الأذربيجاني، لما تحمله من أهمية استراتيجية، فمن يمتلك «شوشي» يمتلك السيطرة على العاصمة، ورمزية بالنسبة للعسكر الآذاري. إذ كانت في السابق ثكنة ومستودعاً تودع فيه القوات الأذربيجانية أسلحتها، قبل السيطرة عليها من قِبل «جيش الدفاع» الارتساخي، وإعادتها بيتاً للصلاة.

 

هدفنا رؤية حجم الدمار والقصف الذي لحق بكنيسة المخلّص. انطلقنا من مقر إقامتنا الموجود قرب مبنى البرلمان الآرتساخي والمقر الرئاسي، أي في مربّع نسمّيه على الطريقة اللبنانية «مربّعاً أمنياً»، وهو من المفترض أن يكون آخر استهدافات أي عمل عسكري عدواني مُحتمل على مقرّات رسمية في العاصمة، إلّا أنّ محيط هذه المقرّات لم يسلم من القصف، فتحولت المحال والأبنية السكنية إلى حجارة مدمّرة، شبيهة بأبنية الرميل والصيفي والأشرفية والمدوّر والكرنتينا وكل المناطق المجاورة بمرفأ بيروت، فقرأ الآرتساخيون الرسالة بوضوح، «الحلول من تحت الركام».

 

كصحافيين لبنانيين، نعتبر أننا نقوم بتجربة فريدة من نوعها، ولو أننا في قلب الخطر. بشكل أو بآخر، نحن تلك الوسيلة التي ستظهر للعالم حقيقة الأحداث على الأرض، ونضال شعب يتوق إلى الحرية والاستقلال بعيداً من حجم المشكلة وتعقيداتها السياسية والدولية.

 

انطلاقاً من هذه القناعات، أكملنا مسيرتنا نحو الهدف، الى جولتنا الميدانية في «شوشي»، لكن، ما لم يكن في الحسبان أصاب الجميع بالخوف والرهبة، عندما بدأت تُسمع في سماء العاصمة اصوات طائرات الدرون، تحوم وتراقب، وتفتش عن هدف تقصفه، فبدأت عملية الكرّ والفرّ، حيث توقفنا مرات عدة نبحث عن مخبأ، في الأشجار، بين الصخور، يقينا صاروخ درون. تكرّرت المسألة أكثر من مرة. هلع وخوف، تحوّل لاحقاً إلى مادة للضحك على مائدة العشاء مساء.

 

يوم في قره باخ كسنين طويلة من أيام حرب لبنان قرأناها في كتبنا. تجربة لا بدّ وأن تقف معتذراً من جميع شهدائنا. ونعاهدهم، انّه اذا يوماً ضللنا الطريق، سيكونون البوصلة، ومسبحة في أعناقنا حتى التراب.