IMLebanon

المعرفة مُتاحة… لمن يرغب!

 

 

 

المكتبة الوطنية في عهدها الجديد

ذات مرة، قال أبو الطيّب المتنبي في أحد أبياته «وخير جليس في الأنام كتاب». قول خالد في عقول الكثيرين. لكن الأزمنة تغيّرت مرّات مذّاك. ثم حلّت الثورة الرقمية في السنوات الأخيرة لتحدث بدورها ما أحدثته من تبدّل في أمزجة الناس وأولوياتهم. عوامل كثيرة فعلت فعلها لناحية توسيع الهوّة بيننا، من جهة، وبين المطالعة عامة والكتب والمنشورات بنسخها الورقية خاصة، من جهة أخرى. إنما من قال لم يعد ثمة متّسع للمكتبات وروّادها؟ مناسبة كلامنا هي إعادة افتتاح المكتبة الوطنية في شباط الماضي بعد اكتمال أعمال الترميم من جرّاء انفجار المرفأ. تعالوا نتعرّف إلى المزيد.

 

نبحث عن نقطة انطلاق فلا نجد أفضل من التواصل مع سمير، أحد روّاد المكتبة الوطنية الدائمين، وهو طالب جامعي، ليخبرنا: «قصدتها للمرة الأولى في العام 2018، بعد أن أُعلن عن إعادة افتتاحها رسمياً، بهدف التعرّف على محتوياتها واستكشافها عن قرب، فوجدتها المكان الأنسب والأكثر هدوءاً للدراسة ولإتمام مشاريعي الجامعية».

 

صحيح أن إعادة الافتتاح كانت في العام 2018 في منطقة الصنائع، لكن تاريخ المكتبة يرجع بنا إلى سنوات بعيدة خلت. فقد تأسست في العام 1921 على يد الفيكونت فيليب دي طرّازي، وافتُتحت رسمياً في ساحة النجمة في 25 تموز من العام 1922. عُرفت وقتها باسم «دار الكتب الكبرى» وبقي مقرّها في ساحة النجمة إلى حين اندلاع الحرب اللبنانية، حين وُضِّبت الكتب الموجودة فيها ونُقلت إلى مبنى الأونيسكو، ثم إلى مستودع استأجرته وزارة الثقافة في سن الفيل في العام 1995، وأخيراً إلى مبنى الجامعة اللبنانية في الحدث العام 2000.

 

لاحقاً في العام 2002، تمّ تخصيص مقرّ مؤقت لمجموعات الكتب في حرم المنطقة الحرة من مرفأ بيروت، واستمرّ بعدها مشروع إعادة تأهيل المكتبة حتى تشرين الأول من العام 2008 مع صدور القانون رقم 36، والذي صُنّفت بموجبه مؤسسة عامة تخضع لوصاية وزير الثقافة. عندها تقرّر تأليف مجلس إدارة لها وتحديد مهام وصلاحيات وقواعد تسيير العمل فيها والرقابة عليها. وبعد الافتتاح الأخير، لم تسلم المكتبة من تداعيات انفجار مرفأ بيروت الذي ألحق أذىً كبيراً بمبناها، ما استدعى إغلاقها وترميمها مجدداً.

 

تغيّرت نحو الأفضل

 

نعود إلى سمير الذي وصف المكتبة بالمكان الرائع، مضيفاً: «لم أتوقع أن أراها بهذا الشكل والتنظيم». فالدخول مجاني ومتاح لكافة الفئات العمرية شرط التزام الهدوء وقواعد التنظيم الداخلي. أما الكتب، فهي كثيرة وأدبية بغالبيتها حيث تتوفّر المواد العلمية بدرجة أقل.

 

المكتبة تفتح أبوابها حالياً من التاسعة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر. وأكثر من يتردّد إليها هم «الأشخاص الذين يهوون المطالعة عموماً أو الذين يقصدون المكان للمذاكرة، لكنهم بمعظمهم من فئات متقدّمة في السن. فالشباب لم تعد تستهويهم هذه الأماكن، بل تشدّهم وسائل التواصل الاجتماعي». الوصول إلى كافة أنواع الكتب مسموح داخل حرم المكتبة، أما استعارتها خارجها فغير ممكنة. من دون أن ننسى فريق العمل الذي يوفّر المساعدة من خلال الإجابة على أسئلة الزائرين وإرشادهم إلى الكتب المطلوبة.

 

ما الذي تبدّل بين 2018 و2022؟ يعلّق سمير: «لقد تغيّرت المكتبة كثيراً بعد ترميمها وأصبحت جميلة شكلاً وتنظيماً. الطاولات متباعدة ولكل قارئ مساحته الخاصة، في حين أن أعمال الترميم أضافت رونقاً على الجو العام». الطالب، ككافة الزائرين، يعاني من مشكلتين أساسيتين تتلخصان بانقطاع التيار الكهربائي وضعف شبكة الاتصالات: «نتّكل على الضوء الذي يعكسه زجاج النوافذ والسقف، كما نعتمد على شبكات تغطية هواتفنا الشخصية»، كما يقول.

 

للغوص أكثر في آلية عمل المكتبة وأهدافها وإمكانياتها كما في إنجازاتها وخطط تطويرها والمعوّقات التي تواجهها، توجّهت «نداء الوطن» بمجموعة من الأسئلة إلى وزير الثقافة، القاضي محمد وسام المرتضى. فماذا يخبرنا؟

 

تطوير وأهداف وتطلّعات

 

أهداف المكتبة متعددة، ليس أقلّها حفظ الإنتاج الفكري الوطني المنشور على اختلاف أنواعه وأشكال نشره، تنمية الأعمال المتعلقة بلبنان واللبنانيين عموماً، والحفاظ على الوثائق التي تعود إلى هذا الإنتاج، منشوراً كان أم محفوظاً في الخارج. أما تلبية الحاجات الثقافية والعلمية للجمهور فهي إحدى أولويات المكتبة الأساسية، وذلك من خلال اقتناء المنشورات المختلفة التي تتوافق واتجاهات الانفتاح في الثقافة اللبنانية على كافة مكوّناتها، كما على الثقافات الأخرى وميادين الإنتاج الفكري المختلفة. ولنشر النتاج الفكري الوطني اهتمام خاص أيضاً، عبر استخدام كافة الوسائل المتاحة لا سيما نشر البيبليوغرافيا الوطنية.

 

نسأل عن كيفية الاستفادة من الكتب وطرق التعريف عنها، فيجيبنا المرتضى: «وضعت المكتبة المجموعات كافة بمتناول الطلبة والباحثين والمهتمّين من خلال كافة الوسائل المتاحة لها». من هنا، تسعى المكتبة إلى احتلال موقع الريادة الوطنية وتشكيل مركز للامتياز في الأبحاث المتعلقة بالكتاب كما بالمكتبات والمعلومات. وتعمل أيضاً على تنمية المهن والمهارات المتصلة بهذه الميادين، إضافة إلى تطوير كفاءات الطواقم الفنية العاملة فيها. هذا مع الإشارة إلى مساهمة المكتبة في تنمية المكتبات العامة وتطوير مجموعاتها وتحسين نوعية الخدمات التي تقدمها، ضمن إطار السياسة العامة التي تعتمدها وزارة الثقافة بهذا الشأن.

 

تكرّر الغلق والافتتاح

 

في وقت يبلغ فيه عدد العاملين الحاليين في المكتبة 21 موظفاً – وهم يعملون بالفاتورة – ترخي الأزمات المتتالية بظلالها السلبية على سير العمل فيها. فانقطاع التيار الكهربائي، على سبيل المثال، يعيق مهمة أرشفة المحتويات. وبالنسبة إلى السبيل لتجاوز العوائق، يجيب المرتضى: «الحواجز، أياً كان حجمها، لا يمكن أن تحول دون تحقيق الأهداف التي نسعى إليها، لأننا نملك إرادة صلبة لإحداث الفارق في أي مجال يرتبط بالثقافة. وبما أن لكل مسألة شائكة حلولاً لتجاوزها، فقد وصل المسؤولون إلى مراحل متقدمة في مشروع تأمين التيار الكهربائي للمكتبة الوطنية بشكل مستدام، ما سيسمح بإعادة فتح أبوابها مجدداً منذ الصباح وبالشكل المعتاد».

 

في الواقع، للمكتبة تاريخ طويل مع المعوّقات. فهي عانت من سلسلة إقفالات كان أوّلها في العام 1976 إبّان الحرب اللبنانية، حيث تعرّضت لأضرار جسيمة فاقدة، بحسب بعض المصادر، حوالى 1200 مخطوطة نادرة من مخطوطاتها. إعادة الافتتاح سنة 2018 كانت بهبة من دولة قطر، لكن انفجار بيروت ألحق بمبنى المكتبة التاريخي أضراراً جسيمة من دون أن تتأذى المحتويات، ما أدّى إلى إقفالها ثانية. وعن سؤال حول الإجراءات التي اتُّخذت حينها، يشير المرتضى: «عندها بدأت عمليات توضيب المقتنيات وحفظها من قبل فريق العمل الذي لم يتوانَ لحظة عن بذل الجهود لإنقاذ وحفظ الكتب الموجودة في قاعة المطالعة أو في المستودعات».

 

ثم هناك الأزمة الإقتصادية الراهنة، إذ إن المكتبة ليست هي الأخرى بمنأى عنها. التمويل حالياً، لغرض تأمين المستلزمات كافة وأجور العاملين، بحسب المرتضى، يتمثّل بالمساهمة التي تقدّمها وزارة الثقافة لمشروع النهوض بها.

 

نظرة مستقبلية تماشياً مع العصر

 

كسائر الأماكن ذات الطابع التراثي، ثمة حاجة إلى حماية المكتبة الوطنية بمبناها الأثري كما إلى خطط إنقاذية مسبقة للتصدي لأي حدث مستقبلي قد يمسّ بإرثها ومحتوياتها. ومن أبرز الخطط التي يُعمل عليها حالياً التوثيق الالكتروني، إضافة إلى برنامج عمل وضعته المكتبة مع جمعية «بلادي» لتدريب فريق العمل على الإجراءات كافة، مع انطلاق هذا المشروع فور جهوزه. ويلفت المرتضى إلى أن فريق العمل سيباشر، مع حلّ مسألة الكهرباء، متابعة المهام التقنية المتمثلة في إدخال الـ»داتا» بالطرق العلمية البحتة الخاصة بعلم المكتبات، أي الكتلغة وتحضير البيبليوغرافيا الوطنية وتأمين الكتب، ما يفسح في المجال أمام الزائر للاطلاع على مجمل المحتويات. أضف إلى ذلك أن للمكتبة خطة لرقمنة المحتوى، وبخاصة الصحف والمجلات التي هي تتفرّد باقتنائها. كما هناك، وفق المرتضى أيضاً، توجّه لتصبح المكتبة صلة وصل بين لبنان المقيم ولبنان المغترب.

 

رقمنة وتفعيل أنشطة

 

بالعودة إلى المحتويات، تضم المكتبة حوالى 500 ألف منها موزّعة بين مجلّدات ووثائق نادرة، مخطوطات، لوحات، كتب، دوريات، منشورات حكومية، خرائط وتصاميم، مقطوعات موسيقية وملصقات، وغيرها. ويعود أقدم كتاب فيها إلى القرن السادس عشر، أما أقدم مخطوطة فإلى القرن الثاني عشر. لكن هل هي متاحة للجميع؟ ينوّه المرتضى في هذا السياق إلى أن «جميع الكتب الموجودة في المكتبة الوطنية والتي تعود إلى ما بعد العام 1970 متاحة لجميع الباحثين والقراء. أما التي تعود إلى ما قبل ذلك، فمتوفرة بحسب حالتها. وكل ما يعود إلى ما قبل العام 1950 يدخل ضمن خطة الرقمنة ليصبح متاحاً للقراء». وأبرز ما يعكس عدم احتواء المكتبة سوى على الكتب اللبنانية أو ذات الطابع اللبناني، تحقيقاً للهدف الأساسي ألا وهو الحفاظ على النتاج الفكري اللبناني، كون معظم الروّاد من الباحثين، طلاب الجامعات والأساتذة. وهي بالحقيقة إحدى ميزاتها.

 

تجدر الإشارة أخيراً إلى تفعيل النشاطات الثقافية في المكتبة منذ إعادة إفتتاحها مؤخراً. وأبرزها تلك التي أقيمت خلال شهر الفرنكوفونية، والمؤتمر الدولي بالتعاون مع جهات ثقافية وعلمية فرنسية حول «شرق رونان: L’Orient de Renan»، إضافة إلى العديد من الأنشطة المقررة في الأشهر القليلة المقبلة.

 

«أصبحت فكرة الانشقاق عن التراث هي المسيطرة على الحداثة»، كما قال المفكّر الفرنسي روجيه غارودي. تماماً. لكن التمسّك بالمكتبة الوطنية وسواها من المكتبات العامة يشي بأن التوفيق بين الاثنين لا يزال ممكناً.