IMLebanon

إلى النّاخب اللبناني: ما نفعنا بدون هويّة؟ لبنان أوّلاً بين الشعبوية والواقعية… الحياد هو الطريق إلى إنقاذ لبنان

 

 

 

لا أعرف ما هو سرّ النجاح، لكنّ سرّ الفشل هو محاولة إرضاء الناس»بيل كوسبي»

 

عندما دعاني القائمون على خيمة الهاب (Hub) في بدايات الثورة، للتحدّث عن الحياد، هاجم الغوغائيون الخيمة، وبدأوا الصراخ: فلسطين فلسطين. وقاموا في اليوم الثاني بإحراقها. لا أعرف كيف هي حالهم الآن مع كلّ هذا التدهور الإقتصادي الذي يعاني منه لبنان. لكنّني أودّ أن أسألهم أولا: أين هي فلسطين ذاتها؟ بالطبع، قضية فلسطين هي قضية مقدّسة لا تتّصل بعقائد إيديولوجية، سياسية أو دينية، بل بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني. وأودّ أن أشير إلى أنّ أقوى المدافعين عن الحقوق الفلسطينية المشروعة، هم أهل الغرب، بما في ذلك في الولايات المتّحدة الأميركية. ما سمعته من رموزهم الثقافية والفكرية والعلمية والإعلامية لم أسمعه في بلداننا. ففي بلداننا سادت لغة التهديدات والتحدّيات والعنتريات والأعمال الدموية والتخوين والعمالة. كانت هذه اللغة، وهذه الأعمال، السّند الأساسي لغلبة إسرائيل، رغم كلّ ما قامت به من إنتهاكات فظيعة للقوانين الدولية وحقوق الإنسان. ذلك الطاغوث من الشعبويّين، سواء على مستوى القيادات السياسية للدول العربية، أو على مستوى قيادات الأحزاب السياسية على مساحة العالم العربي، خَدَم سياسة المتطرّفين والإيديولوجيّين الصهاينة في إسرائيل. أنا لا أستطيع أن أنسى ما قاله لي يوماً وزير خارجية الأرجنتين الذي أيّد في شبابه المقاومة الفلسطينية، أنّ ممارسات «حماس» شكّلت الدّرع القوي لإسرائيل أمام السّخط الدولي على ممارساتها. هو محقّ. محقّ جداً.

 

الشعبويّة آفة لا تقلّ ضرراً عن الطائفية. فالشعبويّة تخاطب أوجاع الإنسان فتحوّله أداة في خدمة مصالحها وأغراضها. لم تقدّم الشعبويّة يوماً حلولاً لمشاكل الشعوب. المنطق القائم على العلم والمعرفة والدراية والقانون، كان دائماً سند الشعوب في الوصول إلى أهدافها.

 

حملت فكرة الحياد كوسيلة لإنقاذ لبنان منذ بداية ثمانينات القرن الماضي. تشيكوسلوفاكيا الإشتراكية وافقت في حينه على فكرة حياد لبنان. مجلّة «المجلّة» السعودية حملت هذه الفكرة عبر مقدّمة رائعة، دعت فيها قادة الدول العربية إلى تبنّي هذه الفكرة. لم أكن أول من نادى بفكرة الحياد في لبنان. رحم الله عميد الكتلة الوطنية ريمون إده الذي دافع بقوّة عن هذه الفكرة منذ ستينات القرن الماضي. وتبنّاها في مرحلة من المراحل الراحل كمال جنبلاط. لكنّ الدول العربية كانت في حالة مغايرة للواقع اليوم. فالإيديولوجية السياسية العربية الشعبوية طغت في حينه. لكنّ هذه الإيديولوجية ماتت منذ «الربيع العربي». شعارات التّحدّي والصّمود تحوّلت كلمات جوفاء، حتى بالنسبة لأهلها الذين سمحوا أن ترى أعينهم رؤية مصير ليبيا وسوريا والعراق وغيرها. نحن في لبنان حظينا أخيراً بأصوات عاقلة ومنطقية عديدة تنادي بالحياد، بدءا بالرئيس السابق ميشال سليمان، وصولا إلى غبطة البطريرك الراعي الذي يُعتبر الآن رمز هذه الفكرة على مساحة الوطن والعالم.

 

الحياد ليس فكرة سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية أو ثقافية. هو قبل كلّ شيء فكرة أمنية مرتبطة بقواعد في القانون الدولي، تقوم بشكل خاص على عدم السّماح لأيّة جهة داخلية أو خارجية، باستخدام لبنان لأعمال عسكريّة عدوانيّة في خدمة طرف ضدّ طرف آخر. لا يقيّد الحياد لبنان في ممارسة حقّ الدفاع المشروع عن النفس. سويسرا هي إحدى أقوى دول العالم لجهة تنظيم شعبها، لمقاومة أيّة أعمال عسكرية تستهدفها. بمعنى آخر، لا يمنع الحياد لبنان من إقامة استراتيجية دفاعيّة وطنية تجمع مكوّنات الشعب اللبناني في أطر مختلفة للدفاع عن البلاد عند الضرورة. أنا مثلاً، لست من المتحمّسين لنزع السلاح من الميليشيات إلّا لوضعها في أمانة الجيش الوطني. أدعو إلى إعادة تغيير عقيدة الجيش، بما يتوافق مع مبدأ الحياد، وقواعد الدّفاع عن النفس وفقاً للقانون الدولي، ومن دون تعريف أيّة دولة بأنّها «عدوّ». تعريف دولة أو طرف خارجي بالعدوّ، تعريف سياسي تضعه السّلطة السياسية ظرفياً وفقاً للحاجة. كما أدعو إلى تنظيم المكوّنات اللبنانية العلمية والعسكرية والفنية وغيرها، بما يخدم سياسة الدّفاع الاستراتيجي لحماية لبنان أمناً واقتصاداً وكياناً وطنياً. السّلاح النّاري هو أحد مكوّنات الإستراتيجية الدفاعية، لكنّه مكوّن مساعد وليس رئيسياً.

 

كما أنّ الحياد لا يمنع علاقات الصّداقة بيننا وبين الدول الأخرى، وخاصّة الدول العربية الشقيقة. لا يفرض الحياد الإنسحاب من جامعة الدول العربية، ولا من منظّمة الأمم المتّحدة، ولا من أيّة منظّمة متخصّصة عاملة في إطار منظومة الهيئة الدولية. لكنّ الحياد يمنع بالتأكيد، أن نكون طرفاً في تحالفات لها طابع عسكريّ مع أيّة مجموعة إقليمية، عربية وغير عربية. وبمعنى آخر لبنان لا يمكن أن يكون جزءاً من إتّفاقية الدفاع العربي المشترك التي لا قيمة لها أصلا. كما لا يمكن أن يكون جزءاً من تحالف الناتو، أو من تحالف شانغهاي وغيرها من التّحالفات ذات الأبعاد العسكرية.

 

الحياد لا يعني الإعتراف أو التطبيع مع إسرائيل. فالدّول المحايدة حرّة في علاقاتها الدبلوماسية. وقد شرحت سابقاً، أنّ ما يربط لبنان بإسرائيل هو إتّفاق الهدنة الذي يقيم ترتيبات أمنية بين الجانبين من دون التأثير على المواقف والمطالب لكلّ من الجانبين. إذاً يكفي أن يلتزم لبنان باتّفاق الهدنة، ليكون في موقع لا يهدّد أمن إسرائيل. وبالطبع، لا يمكن أن يقوم الحياد إلّا باعتراف إقليمي ودوليّ يضمن إحترامه. قبل أن أسأل عن موقف إسرائيل بشأن ضمان حياد لبنان، أتساءل أولاً؛ هل تقبل سوريا أو إيران بحياد لبنان؟ أنا لا أريد أن أسأل عن موقف القوى المحليّة، فهو معروف. ما يظهر من المواقف أنّ المتّهمين بمحاباة أميركا وإسرائيل، ينادون بالحياد، أمّا الذين يلتزمون التحالف مع النظام السوري وإيران، فهم من أشدّ المعارضين للفكرة. لنقل ان سوريا وإيران قبلتا بحياد لبنان، خاصّة وأن روسيا تدعم هذا الحياد، فكيف سيكون موقف هذه الجماعة؟

 

أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فإنّ التزامنا المتبادل باتّفاقية الهدنة لا يفرض علينا طلب موافقتها بشأن الحياد. مطالبة إسرائيل بقبول حياد لبنان يفترض إقامة علاقات طبيعية معها. ونحن لا ندعو الآن إلى مثل هذا الأمر. رئيس الجمهورية حليف «المقاومة» هو الذي عرض في روما، كما أشرنا في حلقة سابقة، السّلام مع إسرائيل «إذا أتمّت إنسحابها من الأراضي المحتلة». نحن أوضحنا أنّ لبنان يلتزم موقف جامعة الدول العربية بهذا الصّدد، علماً أنّ لبنان ملتزم إعلان بيروت عام 2002 بهذا الشأن. إنّ التزام الهدنة وإعلان الحياد عن الصراعات الإقليمية والدولية يشكّلان معا «التّرتيبات طويلة الأمد» التي أشار إليها القرار 1701 لعام 2006، النظام المرجوّ لحفظ الأمن والسلم الدوليين بين الجانبين. أتوقّف هنا لأضيف، أنّ عبارة «العدوّ» بالنسبة لإسرائيل، تظلّ قائمة طالما لم تنته الأعمال الحربية بين الجانبين، بما يشمل إنسحاب إسرائيل من كلّ الأراضي اللبنانيّة المحتلّة في كفرشوبا ومزارع شبعا، ووقف كلّ التهديدات العسكرية ضدّ لبنان، ووقف انتهاك سيادة الأجواء الوطنيه والمياه الإقليمية اللبنانية.

 

الحياد لا يعني أبداً الّتنازل عن شبر واحد من مياهنا الإقليمية، أو عن ذرّة من ترابنا الوطني. لقد كنّا من أوائل الذين فضحوا معنى «الإطار التفاوضي» الذي أعلنه الشّريك في «المقاومة» نبيه برّي، للتّفاوض مع إسرائيل بشأن ترسيم الحدود البحرية. شرحنا مراراً ما يعنيه الخطّ الأزرق من تجاهل للحدود المعترف بها دولياً في اتّفاقية الهدنة، وما يؤدي إليه من تنازل عن مساحات من الحدود البرّية مع فلسطين التاريخية. الأمر الذي يؤدّي تلقائيا، إلى التنازل عن مساحات من المياه الإقليميّة بما فيها من غاز ونفط لمصلحة إسرائيل. أين هم حلفاء «المقاومة» من هذا الأمر؟ أين هم أمراء الحرب وزعماء الأحزاب وأصحاب الشّعارات الوطنية؟

 

شرحنا أيضا ما يعنيه «الإطار التفاوضي» بربط المفاوضات مع إسرائيل بتفاهم نيسان لعام 1996 بين «حزب الله» وإسرائيل والولايات المتّحدة، موضحاً أنّه يعطي ضمانة من «سيد المقاومة» بعدم التعرّض للنشاطات الإسرائيلية في استخراج الغاز والنفط باعتبارها «أنشطة مدنيّة». أين هم المنادون بكلّ الويل والثبور لإسرائيل «إذا فعلت أو فعلت ألخ…». إسرائيل تفعل. حلفاء المقاومة وأمراء الحرب يحملون الشعارات فقط. إسرائيل تتفاوض اليوم مع تركيّا على إقامة خطّ لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيّا وذلك بدلاً من الغاز الروسي. سوريا ولبنان يستوردان هذا الغاز عبر الأردن. إلى متى هذه الشعبويّة؟

 

أنا أعرف أنّهم يُلبسون كل من يفضح ممارساتهم، ويعارض مواقفهم، بالعمالة والخيانة إلخ… أنا لا أخاف منهم. لقد شرحت تاريخي الطويل كمناضل في وظيفتي الدبلوماسية، وداخل إدارتي، ضدّ الإحتلال الإسرائيلي للبنان. تاريخي المضيء بما قدمته من نماذج عمليّة في مواجهة الطائفية، وزعماء الحرب، وفي شرح الحقائق التاريخية لمعاناة شعوبنا، إدانة لكلّ من يحاول أن يرميني بمثل هذه الكلمات. أحدهم وصفني يوما بـ «تلميذ فيلتمان»، وأنا الذي أخاصم أقرب حلفائه اللبنانيين. كشف هذا الإتهام الفارغ زيف ادّعائه بالحوار، وبيّن لكلّ من صدّق وجود نيّة للحوار في بيئة ما يسمى «المقاومة»، بأنّ ذلك الحوار أسلوب خادع لتخدير الناس في زمن الثورة. كم من المجموعات «الثوريّة» أصبح همّها مهاجمة المصارف، وتدمير البنى التحتية العامّة، والتصويب على المصرف المركزي، ولو على حساب مضاعفة معاناة أهلهم، مساهمين في تجهيل الناس أنّ ما نعانيه من حصار وعقوبات وعزلة، هو نتيجة قبولنا بأن يكون وطننا جزءاً من المعركة الكبرى القائمة حولنا.

 

كم أحزن عندما يسألني أحد المفكرين عن ممارسات أميركا والسعودية وغيرهما ضدّنا، وهو الذي يجب أن يدرك أنّ تدمير الآخر هو وسيلة مشروعة من وسائل الحرب. نحن الذين اخترنا القتال ضدّهم. هم يقاتلوننا بقواهم، تاركين لنا أن نختار: المعاناة أو المطالبة بالحياد. هم أيّدوا إعلان بعبدا لعام 2012. على الأقل، هم لم يسعوا إلى تجييش اللبنانيين الآخرين للقتال معهم، لا داخلياً ولا خارجياً. تصوّروا لو أنّ تلك القوى، قامت بتزويد اللبنانيين المعارضين لإيران، بأسلحة مماثلة للأسلحة التي تقوم إيران بتزويد «المقاومة» بها، ماذا كان ليحصل لبلدنا وشعبنا؟ التدمير لا يعني بالضرورة إستخدام السلاح الناري فحسب، بل كلّ سلاح له هذا المفعول التّدميري. من لا يزال غارقاً في أحلام القوّة النارية التي رسمها حافظ الأسد وغيره، خلال العصر السوفياتي، لن يدرك أنّ الإتّحاد السوفياتي قد انتهى، وأنّ القوّة اليوم ليست مقتصرة على الحديد والنار، بل هي أوّلا على تدمير الإقتصاد. إن من يدري واقع التطوّرات التي حصلت منذ العام 1991، يستنتج تلقائيا، أنّ «العدوّ» (الأميركي والإسرائيلي) أبقى على القوّة الناريّة «للمقاومة»، لأنّها تخدم أهدافه. ومن لم يتمكّن حتى الآن من رؤية الحقائق الساطعة التي تجلّت في منطقتنا منذ العام 2011 حتى اليوم، هو سياسي قاصر لا أمل منه. لا عجب أنّ كثيرين من المفكرين السياسيين والإيديولوجيين ما زالوا يعتقدون أنّ الإتحاد السوفياتي «الإشتراكي والتحرّري» قد تقمّص بشخص الرئيس بوتين. رافضين إحتمال أن يكون الرئيس بوتين قد تقمّص قميص الأمبراطورية الروسية، كما يتقمّص الخامنئي الإمبراطورية الفارسية، وأردوغان الإمبراطورية العثمانية.

 

بئس هذا الشعب.