IMLebanon

الحياد أو الميثاق

حياد لبنان ليس مسألة تقنية أو إدارية أو تنظيمية أو ثانوية أو شكلية، بل قضية جوهرية تتصل بميثاق العيش المشترك بين اللبنانيين الذي قام في العام ١٩٤٣ على المعادلة الميثاقية الآتية: «لا شرق ولا غرب»، وبالتالي نسف هذه المعادلة يشكّل نسفاً لميثاق العيش المشترك.

السيّد حسن نصرالله، وفي إطلالته الأخيرة في احتفال ذكرى «الشهداء القادة» قال: «منذ عقود من الزمن إلى اليوم يوجد منطقان في لبنان: منطق يقول: نريد لبنان بمعزل عن المنطقة وأحداثها، النأي بالنفس عمّا يجري فيها، عدم التدخل في شؤون المنطقة، لأنّ لبنان لا يتحمل، وظروفه معقدة وصعبة، وبالتالي يجب عدم زجّه بأيّ محور من المحاور.

والمنطق الآخر يقول: دائماً كان لبنان ـ شاء اللبنانيون أم أبوا ـ يتأثر بما يجري في المنطقة، إغتصاب فلسطين ترك آثاراً عظيمة على لبنان والمنطقة، ولا يستطيع أحد أن يقول نحن لا نريد أن نتأثر. واليوم لبنان متأثر بما يجري في المنطقة أكثر من أي وقت مضى، ومن يريد أن يقرر مصير لبنان يجب أن يكون حاضراً في مصير المنطقة، ومن يغيب يقول للآخرين إصنعوا مصيرنا».

ولم يكتف السيّد نصرالله بهذا القدر، بل تناول المنطق الأول بشكل تهكمي قائلاً: «كنّا نريد أن نقنع بعض اللبنانيين أنّ لبنان جزء من المنطقة العربية ومن بلاد الشام ومن الشرق الأوسط ومن الصراع العربي الإسرائلي، فيقول لك كلا، نحن جزيرة في المحيط الهادي، نعيش على مهلنا ولا نتأثر بأيّ شيء، وليس على بالنا شيء.

وأمّا اليوم فالموقف تطور سلبياً أكثر، أصبحنا نريد أن نقنع بعض اللبنانيين أنّ لبنان جزء من الكرة الأرضية وليس جزءاً من المريخ، واليوم كل الكرة الأرضية تتأثر بما يجري في منطقتنا».

وعليه، النقاش الذي أحياه السيّد نصرالله هو قديم ويعود إلى عشرينات القرن الماضي وأربعيناته في ظل الدعوات آنذاك إلى الوحدة العربية ورفض محاولات فصل مصير لبنان عن مصير المنطقة.

وقبل السقوط الكبير للبنان في حرب العام ١٩٧٥ كنتيجة مباشرة لتوقيع اتفاق القاهرة الذي أتاح للفلسطينيين العمل المسلح انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، اهتزّت التجربة اللبنانية في أزمة العام ١٩٥٨ بين القوى المؤيدة لسياسات الرئيس كميل شمعون والقوى المؤيدة لسياسات الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان أيقظَ أحلام الوحدة في الوجدان السني.

ولَو استدعت ظروف استقلال العام ١٩٤٣ وضع مقدمة للدستور على غرار المقدمة التي وضعت في دستور «الطائف» التي عَددت المبادئ الأساسية للجمهورية اللبنانية، لكانت معادلة «لا شرق ولا غرب» احتلّت البند الأول من تلك المقدمة. فالمسيحيون ما كانوا في وارد التخلي عن الانتداب الفرنسي لولا تعهّد المسلمين بالتخلي عن الوحدة مع سوريا والعالم العربي والتزام تحييد لبنان.

والنقاش المسيحي كان آنذاك مثلّث الأضلاع: فئة تقول بخطأ لبنان الكبير، وفئة ثانية تفضّل بقاء الانتداب، وفئة ثالثة متحمّسة للتجربة اللبنانية شرط التزام المسيحيين والمسلمين بلبنان أولاً.

والموقف المسيحي لم يكن من منطلقات انعزالية كما كان يحلو للبعض توصيفه، بل من هواجس جدية ومخاوف وجودية، لأنّ رؤية شريكهم للبنان كانت تختلف عن رؤيتهم بشكل جذري، وتكفي العودة إلى نقاشات تلك المرحلة حول الطائفية والعروبة ولبنان والاستقلال والسيادة، لتبيان النظرة الانقسامية حيال لبنان ودوره.

ولا يختلف اثنان أنّ الخيار الاستقلالي لم يكن خياراً مسيحياً وإسلامياً شعبياً، بل كان نخبوياً واستغرق ٨٥ عاماً ليتحوّل في العام ٢٠٠٥ إلى خيار شعبي، غير أنّ تعثّر تجربة انتفاضة الاستقلال بسبب تمسّك «حزب الله» بدوره وسلاحه أعاد طرح التساؤلات نفسها، وأبرزها: هل التجربة اللبنانية قابلة للحياة؟

وللتذكير بأنّ لبنان بلد تعددي، وفي المجتمعات التعددية يجب احترام مشاعر كل جماعة بالامتناع عن ممارسة سياسات تتعارض مع توجهات هذه الجماعة أو تلك، الأمر الذي يجعل قاعدة الحكم واضحة: إمّا الالتقاء ضمن مساحة مشتركة لها دستورها وقوانينها وقواعدها وفي طليعتها الحياد، وإمّا الذهاب نحو مساحات منفصلة، ولكن لا يجوز إطلاقاً أن تتحوّل المساحة المشتركة إلى مساحة مخطوفة من قبل فئة محددة تُلزم فيها الفئات الأخرى بخياراتها وتوجهاتها.

وبالعودة إلى العام ١٩٤٣ فلبنان قام على معادلة «لا شرق ولا غرب». ولولا تلك المعادلة لَما استقلّ لبنان، ولا كان أمكن الكلام عن العيش المشترك بين اللبنانيين، هذا العيش الذي ارتضوه بإرادتهم الحرة ويرتكز على قاعدة بنيوية إسمها الحياد، وأيّ نسف لهذه القاعدة يعني نسفاً لهذا العيش المشترك.

والقول إنّ لبنان لا يستطيع أن ينأى بنفسه غير صحيح. فاتفاق الهدنة مع إسرائيل لم يَنهَر في حرب العام ١٩٦٧، بل مع اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩ نتيجة انقسام اللبنانيين العمودي بَين من يرفض العمل المسلح انطلاقاً من لبنان، وبين مَن يؤيّده، فانفجرت الدولة في العام ١٩٧٥. فالمشكلة ليست في القدرة أو عدم القدرة على تحييد لبنان، بل المشكلة كانت وما زالت بانشداد مشاعر فئة من اللبنانيين إلى صراعات المنطقة ومحاورها.

ويجب الإقرار أنّ هذا الانشداد طبيعي، لأنّ بعض الجماعات تعتبر نفسها معنية مباشرة بهذه الأحداث على المستوى الديني والايديولوجي، الأمر الذي يحتّم عليها في المقابل اعتماد خيار من خيارين: إمّا الانسياق وراء مشاعرها أو لَجم هذه المشاعر.

ففي حال الخيار الأول لا يحق لها أن تلزم الآخرين بخياراتها، بل أن تذهب وحيدة ومنفردة، وأن يعاد في ضوء قرارها النظر بالصيغة تجنّباً لانعكاس خيارات هذه الفئة على مصالح الفئات الأخرى. وفي حال الخيار الثاني يعني أنّ هذه الفئة قررت تَبدية أولوية العيش المشترك على الاعتبارات الأخرى.

فقرار النأي بالنفس يتطلّب إرادة لبنانية فقط لا غير، ومجرّد توافرها يتحوّل النأي إلى واقع صَلب، لأنّ قوّته متأتية من وحدة اللبنانيين، وأيّ محاولة خارجية لكسر وحدتهم الداخلية أكانت إسرائيلية أو تكفيرية يواجهونها مجتمعين ومتحدين، لا مفرّقين، والمواجهة تكون بواسطة المشترك بينهم فقط، أي الدولة، فيما تضامنهم مع القضايا العربية يقتصر فقط على الموقف، على غرار سائر الدول العربية، ومن دون تحويل لبنان إلى ساحة.

فمصير لبنان يقرره اللبنانيون وحدهم، والمقارنة بين النأي بالنفس عن الأحداث المحيطة، وبين النأي بالنفس عن الطبيعة والعواصف والثلوج كما قدّمها السيّد نصرالله، غير صحيحة، لأنّ مسائل الطبيعة تتجاوز إرادة البشر، فيما المسائل البشرية تتطلّب وجود إرادة تعطي الأولوية إمّا للبعد الديني-الايديولوجي أو للبعد الوطني-اللبناني، فإذا استقرّ التوجّه على البُعد الأول يعني انهيار الميثاق والتجربة والرسالة وضرورة البحث عن صيغة جديدة، وفي حال استقرّ على البُعد الثاني يعني أنّ إحياء الميثاق ممكن، لأنّ الفكرة اللبنانية لا تقوم إلّا على الحياد.