IMLebanon

يثور على البك ليصبح بك

 

 

«شدي اللحاف يا صفية… مفيش فايدة» (سعد زغلول)

 

«يعيش أهل بلدي وبينهم ما فيش تعارف يخلّي التحالف يعيش

تعيش كل طايفة من التانية خايفة وتنزل ستاير بداير وشيش

لكن في الموالد يا شعبي يا خالد بنتلم صحبة ونهتف يعيش

يعيش أهل بلدي» (أحمد فؤاد نجم)

 

في رواية عن عقم التغيير في السلطة في بلدان العالم الثالث، ذكرها كتاب «كيف تفشل الأمم» للباحثَين «روبنسون» و»أسيموغلو»، أنّ «منغيستو هيلا مريم»، ضابط الجيش الإثيوبي الذي أصبح من أيقونات المناضلين الشيوعيين في العالم الثالث، عندما انقلب على العهد الإمبراطوري، بعد سنتين من وفاة الامبراطور «هيلا سيلاسي»، استهلّ حكمه بجلوسه على عرش الامبراطور الراحل بحلّة ثورية متوحشة، أي أنّه لم يغيّر حتى في موقع إدارة الدولة. كما هو متوقع، فقد ترحّم الناس فيها آلاف المرات على عهد الامبراطور، فقد كان على الأقل يحمل أسطورة نسل الملك سليمان الحكيم من زوجته ملكة شيبا، والله أعلم!

 

بصراحة، لم تفاجئني أبدًا تلك اللقطة المثيرة للجدل، حيث حمل «الشعب» المتحمّس والجماهير الغفيرة، النائب الثائر والمنتصر على البك على الأكتاف، فليس الحق دائمًا على المحمول على الأكتاف، فالحامل يتحمّل هو أيضًا وزر دفع النائب الثائر على البك ليتحوّل إلى بك هو نفسه، حتى وإن بقي يتقمّص صفة محارب البكوات وقاهرهم في عقر دارهم. ففي مراجعة للنواب الذين أعرفهم في طرابلس، وكانوا ينافسون جميعهم زعامة الأفندية التاريخية، على أساس أنّهم من سُعاة التغيير في النهج والأداء، فقد كانوا ينتهون جميعًا إلى النهج نفسه في السعي إلى الزعامة وتأبيدها، ومنع أيّ من المستجدين من المنافسة على موقع يتحوّل فجأة ملكية عائلية يَرثه عادة النجل الذكر، بغض النظر عن مؤهلاته. أحيانًا تنتقل الوراثة إلى الأخ أو إبن الأخ، إن عزّ وجود إبن ذكر، أو إلى الزوجة أو الإبنة أو الأخت.

 

وغالبًا ما يأتي هؤلاء الورثة الشرعيون، بأداء يترحّم على الأصيل، عندما تحلّ البلطجة بدل هيبة الزعامة، ورعاية الخارجين عن القانون بدل رعاية السلم الأهلي، أو التفاهة والرويبضة بدل العقلانية والتحفّظ، وإن كانت تلك العقلانية عقيمة. الغريب المؤسف هو أنّه حتى المواطنين الذين يقضون 4 سنوات في انتقاد أداء نائب ما وشتم الساعة التي أتت به على ناصية القوم، لفساده أو لسوء أدائه وغبائه أو لإهماله مصالح الناس، يعودون في يوم الانتخابات إلى النهج نفسه، فإما يتخاذلون عن الذهاب الى التصويت لمرشحهم المثالي بحجج شتى، منها مثلًا عدم الرغبة في تلويث الإصبع بالحبر، أو لأنّ يوم الأحد هو يوم إجازة نقضيه على البحر أو لا أحد يستأهل. لكن المصيبة تحلّ عندما ينتخبون النائب نفسه بحكم العادة أو المعرفة أو القرابة أو لخدمات شخصية قدّمها أو وعد بها هذا النائب أو ولي عهده.

 

ثالثة الأثافي هي عندما يقرّر البعض أنّ التغيير هو الشعار، لأنّه «كلن يعني كلن»، وبالتالي يفتقد الرشد إلى حسن الخيار، ويتمّ اختيار المجهول من دون تفكير أو تمحيص بمن وكيف ولماذا أتى هذا المجهول من المجهول ليخوض غمار مغامرة في المجهول في بلد مفلس ودولة فاشلة. والمصيبة النكباء تحلّ عندما يتمّ الاختيار من دون أن يحمل ذاك القادم المجهول أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو إصلاحي، فيما عدا حفنة من ملايين الدولارات يصرفها على المستشارين الخبراء في إدارة الانتخابات، وسماسرة الأصوات البائعين لها في المزادات، وهم القادرون أيضاً على شراء كل لوحات الإعلانات لفرض سحنتهم وابتساماتهم ووقفات عزّهم وشعاراتهم الفارغة على عقول الناس، بما يكفي لتخطّي الحاصل الانتخابي. هنا، تذكّرتُ كيف أتاني صديق خبير في شؤون الانتخابات، في بدايات الحملة الأخيرة ليقول لي: سترى كيف سأجعل من فلان الآتي من المجهول ولا يحمل أي مشروع ولا يفهم شيئًا عن السياسة، نائبًا عن المدينة! وهكذا حلّ بك جديد بدل بك قديم. وستمضي سنوات أربع من عمرنا في شتم الساعة التي تخلّينا بها عن عقلنا وعن واجبنا في اختيار المعروف بدل المجهول.

 

عندما نقول المعروف فالخيار ليس صعبًا ولا معقّدًا، فيكفي أن يتمّ التركيز على صفات ثلاث أساسيات:

 

ـ الأولى، النزاهة، وهذا يعني الصدق والشفافية والبعد عن المال الحرام في الحياة الخاصة والعامة، وهذا ليس بالشأن الصعب معرفته في مجتمع النميمة الذي نعيشه بنحو لصيق كل يوم.

ـ الثانية، هي القوة والصلابة في الثبات على النزاهة، عندما تأتي المغريات الكثيرة في موقع السلطة، وهذا أمر يمكن استشفافه من مسار الفرد في السلطة أو في المعارضة. لكن ما يجب التركيز عليه هو المشروع الذي يحمله ذاك المتنطح للقيادة في الشأن العام، إن كان مجديًا أو مناسبًا أو واقعيًا أو لا يتناقض مع المسار العام لمدّعيه. من هنا تأتي النزاهة والصلابة لتدعم مسار تحقيق البرنامج، أو على الأقل السعي إليه.

 

أقول قولي هذا وأنا خارج مثقلًا بخيبات أمل، ليس بسبب عدم النجاح شخصيًا في الانتخابات، بل لأني عدت وراجعت أسباب عدم ثقة أفلاطون بالديموقراطية، فتأكّدت أنّ وصول الحكيم الثاقب النظر إلى سدّة المسؤولية لا علاقة له برأي الأكثرية، «فشدي اللحاف يا صفية مفيش فايدة».