IMLebanon

عن العمالة والوجدان: العداوة كالحبّ لا إكراه فيها

 

أين أصبح العميل شربل قزّي؟ مَن يذكر اسمه أصلاً؟ ذاك الاسم الذي شغل الفضاء الإعلامي اللبناني، قبل سبع سنوات، إثر قرار محكمة التمييز العسكريّة إخلاء سبيله. كان مداناً قبل ذلك، مِن قبل المحكمة العسكريّة الدائمة، ومحكوماً عليه بالسجن سبع سنوات (فقط) بجرم التعامل مع العدو الإسرائيلي. كأن لم يكف أليس شبطيني، القاضية رئيسة محكمة التمييز آنذاك، ومعها أربعة ضبّاط (قضاة)، أن يكون الحكم «خفيفاً» أصلاً قياساً بجرم «أصبحت معه الاستخبارات الإسرائيليّة تعيش بيننا عبر شركة ألفا للاتصالات» (بحسب اعترافات قزّي)… فأرادوا تخفيف الحكم أكثر. أخلوا سبيله بعد قضائه نحو سنتين فقط في السجن. كان يُمكن ثلاثة ضبّاط مِن الأربعة أن يعترضوا، فيسقط إخلاء السبيل، لكنّ هذا لم يحصل. إخلاء السبيل لا يعني البراءة، بل يعني في هذه الحالة أنّ الشخص سيُحاكم لاحقاً بعد فسخ الحكم الأوّل، إنّما جرت العادة في هذه الملفّات بألّا يعود الشخص إلى السجن مجدداً. تمرّ المسألة ولا ينتبه إليها أحد، أو أنّ هناك مَن ينتبه، لكنّه «يلبد على الموضوع» لحسابات شتّى، يعني لغاية، أو لألف غاية في أنفس ألف يعقوب. هكذا تجري الأمور في بلادنا.

 

لم تكن تلك «المأثرة» الأولى للقاضية شبطيني، ومعها الضبّاط الأربعة في محكمة التمييز. إذ قبل سنة مِن تلك الواقعة، أخلوا سبيل أربعة عملاء محكوم عليهم بالسجن مِن 10 إلى 15 سنة. هؤلاء لم يكونوا في السجن على ذمّة التوقيف الاحتياطي، بل كانوا مدانين أيضاً بأحكام صادرة في حقهم، وبالتالي كان ما يحصل فاقعاً جدّاً. آنذاك، تذرّعت القاضية بأنّ ثلاثة مِن العملاء المخلى سبيلهم كان لديهم وضع صحّي سيّئ، وبالتالي أرادت أن «توفّر على الدولة ثمن الصرف عليهم». وحتّى مع هذه «التجليطة» الرهيبة، لم تخبرنا القاضية (التي كافأها النظام لاحقاً وأصبحت وزيرة) سبب إخلاء سبيل العميل الرابع، المتمتع بصحّة جيّدة!!! قبل هؤلاء حصلت إخلاءات سبيل، وبعد ذلك حصلت أيضاً إخلاءات، وفي كلّ مرّة كانت تُثار المسألة إعلاميّاً لمدّة وجيزة ثم تُنسى. لم يحصل أن وضِعت قواعد نهائية، ولو بالاتفاق بين اللبنانيين، لموقف موحّد مِن هذا القضيّة الحسّاسة. مردّ ذلك كان الخوف مِن الاصطدام، بحكم الواقع اللبناني، بما هو «أكثر حساسية». جاءت قضيّة العميل المحكوم عليه فايز كرم، ثم انتهت، ثم أتت زيارة البطريرك بشارة بطرس الراعي للأراضي المحتلة، خلافاً للقانون الذي يُفترض أن يخضع له كأيّ لبناني، ثم عاد وانتهى الجدال في القضية. كيف انتهت قضيّة المخرج اللبناني، زياد دويري، الذي زار العدو بل «عاش» عنده؟ كان يُمكن الحديث طوال المرحلة الماضية، أقلّه نظريّاً، عن الحاجة إلى تعديل في القانون مِن قبل «المحتاجين» إلى تعديل، لكن حتى هذا لم يحصل. كأن هناك مَن يقول: لا. نعرف القانون جيّداً، وسنقفز فوقه عند كلّ «حاجة» خاصّة بنا. يُحكى دوماً عن الخشية مِن أن تُصبح العمالة وجهة نظر، أمّا في بلادنا فالمسألة مختلفة، القانون نفسه وجهة نظر… والكلمة هنا للأقوى بحكم الواقع. القوة، عندنا تحديداً، ليست محصورة في السلاح، بل هي في حسابات صيغة «الآباء المؤسسين» وأعرافهم الطائفيّة والعائليّة والمناطقيّة. هذا هو الدستور الفعلي للبنان. تلك الصيغة التي قام عليها الكيان، ولحقتها تعديلات، عاندها البعض ردحاً مِن الزمن، قبل أن يعود الجميع وينخرطوا فيها. هكذا، أصبح عليهم أن يتعايشوا معها، مِن وجهة نظرهم، بسلبياتها وإيجابياتها.

 

في بلادنا ليست العمالة وحدها وجهة نظر بل القانون أيضاً

 

الآن أتت قضية العميل عامر الفاخوري، أي عودته إلى لبنان بكل ثقة، وهو المعروف بأنّه كان أحد جزّاري معتقل الخيام الشهير. هو معروف بذلك، وكلّ «أكل هوا» في هذه النقطة لا معنى له. ربّما كانت القضية ستمرّ بهدوء لو أن اسم الفاخوري لم يقترن بمعتقل الخيام. الدفع الوجداني، المنطلق مِن ألم عميق في الذاكرة الجمعية لشريحة واسعة من اللبنانيين، فعل فعله هنا. ظنّ البعض أن صيغة الاتفاق بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ، في مسألة عودة العملاء أو المبعدين أو الموجودين في إسرائيل (دلالة الخلاف في الوصف هنا كافيّة لشرح المواقف)… كافية لوضع تصوّر نهائي لحل هذه القضيّة. منذ ذاك الاتفاق وإلى اليوم ظهرت حالات كثيرة أظهرت أن المسألة أعمق مِن مجرّد توافق إنشائي. نحن، في لبنان، مختلفون. العداوة لجهة ما، خاصّة على المستوى الوجداني، هي كالحب تماماً، لا يمكن أن تحصل بالإكراه. حتى وإن شعر الجميع بالعداوة، في مرحلة ما، يبقى أنّه ليس شرطاً أن ذلك بنسبة موحّدة. ستتفاوت وفقاً لتجربة كلّ طرف. هذه حقيقة لا بدّ مِن التعامل معها كواقع. مملّاً أصبح هذا الخلاف الذي يُثار كلّ مدة ثم ينتهي إلى لا شيء. غاية الأمر أنّه يُمكن أن يُنظّم هذا الخلاف – الاختلاف، بـ«عهد عميق»، وإلا فسيظلّ الأقوى (بمختلف أسباب القوّة) هو مَن يفرض وجهة نظره، ولا بأس بذلك، شرط أن يعي الجميع ذلك