منذ عشرينيات القرن الماضي كان يبرز مع كل استحقاق رئاسي، مرشحون رئاسيون، يحيطون أنفسهم بجيش من المستشارين والمساعدين، وبهالة من الجدية، وتمتد سلسلة اتصالاتهم وعلاقاتهم من الداخل حتى عواصم العالم القريب والبعيد.
وإذا كان البعض من المرشحين يتسم بالجدية والرصانة، والبعض الآخر يمني النفس بأن يكون «فلتة شوط»، ينزل الوحي على اسمه كان البعض الثالث، مرشحاً كاريكاتورياً وجد في نفسه الصلاحية للمركز الأول في البلاد، أو زين له البعض أنه الأفضل للمركز، خصوصاً إذا كان هذا «المرشح» يملك المال الطائل، ومن هذا البعض الثالث «الأمير» جورج لطف الله الذي زين له البعض بأنه الصالح الأوحد لأن يكون رئيساً للبنان، ثم يصير أميراً فملكاً لبلاد الأرز.
حدث ذلك في العام 1929 وتحديداً قبل بضعة أشهر من نهاية الولاية الأولى للرئيس شارل دباس، رئيس الجمهورية الأول في عهد الانتداب الفرنسي.
آنئذ كانت رئاسة الجمهورية ملك المندوب السامي الفرنسي، هو الذي يحدد الاسم العتيد لمن سيستغل الكرسي الأولى، وهو الذي ينصبه وكان المجلس النيابي يبصم في صندوق الاقتراع على الوحي الموحى به من فخامة المندوب السامي، أما علاقة «الأمير» جورج لطف الله بهذه القضية، فلها قصة طريفة مع عمق دلالتها في كل الأزمنة حينما يستحق الموعد لاختيار فخامة رئيس البلاد، لندع الزميل الراحل اسكندر رياشي يروي قصة «الأمير – الرئيس»، كما جاءت في كتابه «قبل وبعد».
اجتمع ذات مساء في مطلع العام 1929، بعض الصحافيين ورجال السياسة اللبنانيين من أهل المتاجرة والتملق حول مائدة سخية في قصر الجزيرة بالقاهرة، وكان صاحب القصر الأمير جورج لطف الله يرأسها.
جاءوا كالعادة يرسلون المدائح والإطراء لصاحب القصر، الذي كان حساساً كثيراً في هذا الجانب مما كان يجعله يغدق النعم على هؤلاء الأساتذة في الكلام، كان جورج لطف الله ضعيفاً جداً أمام المدح والثناء مع أنه كان جباراً ومغرياً بعضلاته القوية، ذا شعر مبعثر حالك السواد ولون أسمر حادق وكان مليونيراً كبيراً، ملك ثروة كبرى كان والده قد وضع قاعدتها، عندما هاجر من لبنان إلى مصر فاستطاع أن يربط مصيره بمصير الخديوي عباس المتربع على عرش أرض الكنانة في ذلك الوقت.
كبرت ثروة الرجل الذي كان مصاباً بمرض العظمة، وهو المرض الذي أصاب أنجاله من بعده بطريقة أشد وأقوى، وقد ابتاع والد جورج لطف الله قصر الجزيرة التاريخي وجعله مقراً لسكنه ومنزلاً لضيافة عظماء الأرض وكبارها، وتقول حكاية هذا القصر، إن الخديوي اسماعيل ابتنى هذا القصر بسرعة فائقة وكرم عظيم لتنزل فيه الامبراطورية أوجيني دي مونتجو الحسناء، عندما تأتي إلى مصر مع ملوك أوروبا، لتدشن قناة السويس، فلا يتبدل عليها شيء في قصر الجزيرة عما هو عليه الحال في قصر التويلري في باريس حتى لجهة الفراش والشراشف والمرايا وأواني الزينة.
ويقال إن الخديوي اسماعيل جعل في جدران غرف نوم الامبراطورة وحمامها ثقوباً خفية يستطيع منها أن يمتع أنظاره بعري أوجيني الساحرة.
وهكذا عاش لطف الله الأب مع أنجاله الأربعة في جنبات القصر يحلمون بالجاه والعظمة.. وبالعروش.. وكان الأب قد حصل على لقب الإمارة من الشريف حسين بن علي عندما حل هذا الأخير ملكاً على عرش الحجاز في الحرب الكونية الأولى.. وبالتالي صار أميراً كما حصل أولاده من بعده على ألقاب أمراء.. بالعودة إلى تلك المائدة العامرة التي أقامها الأمير جورج لطف الله.. تناول الحديث قضية الرئاسة الأولى في لبنان مع اقتراب نهاية ولاية شارل دباس.. وهنا طرأت على بال رئيس تحرير جريدة الأهرام، اللبناني أنطون الجميل فكرة أثارت اهتمام الأمير جورج.
قال الجميل: لماذا لا يتكلمون في بلادنا عن عرش وملك؟..
وهنا لمعت عينا الأمير جورج وظهرت الابتسامة على وجهه.. وفجأة ضرب بقبضته القوية على المائدة.. فاهتز كل ما على المائدة، وقال إذا كان ليس هناك من يتكلم عن إمارة وعرش عندنا، فأنا سأتكلم، وأمام كؤوس الخمور الفاخرة، بدا الكثيرون الملتفون حول المائدة يزينون الفكرة للأمير جورج بحيث ما أن انتهت السهرة العامرة حتى وكان جورج لطف الله قد أصبح رئيساً ثم أميراً ثم ملكاً..
هكذا صار قصر الجزيرة بعد أيام قليلة كما يؤكد اسكندر رياشي: ملتقى تجار السياسة وأهل الدعايات والمغامرات، فضلاً عن جيش الصحافيين العاملين في أسواق الاستثمارات السياسية يقومون بالبروباعندا اللازمة للأمير.
.. وبدأ جورج لطف الله اتصالاته بوزارة الخارجية الفرنسية، التي كان متأكداً أنها وحدها التي توصله إلى رئاسة الجمهورية عن طريق مفوضيتها السامية في بيروت، وبالتالي تمهد طريقه نحو الإمارة.
وسافر جورج لطف الله إلى باريس وهناك أقام وليمة كبرى على شرف سكرتير وزارة الخارجية، فأخفى عقداً من اللؤلؤ نادر المثال وثمين جداً ضمن منشفة السفرة فوق أطباق الطعام المعد لزوجة السكرتير العام، وكانت دهشة السيدة عظيمة عندما اكتشفت الكنز الثمين الذي لم تستطع إخفاءه مما جعل معظم الصحافيين الحاضرين يتحدثون في اليوم التالي عن العقد الثمين، وعدا عن العقد دفع الأمير جورج، في باريس إلى سماسرة العروش مبالغ كبيرة، منها ثلاثون ألف جنيه أعطاها لموظف كبير في وزارة الخارجية مقابل كتاب حمله معه من باريس عليه توقيع سكرتير الوزارة العام يطلب فيه من المفوض السامي في بيروت مساعدة الأمير ليكون رئيساً لجمهورية لبنان.
سافر الأمير جورج لطف الله إلى بيروت وبدأت على الفور مساعيه للوصول إلى غايته، وكان المفوض السامي قد عرف حالاً بتزوير الكتاب، ولم يكشف عن الأمر حفاظاً على سمعة وزارته في باريس، ولهذا بقي الأمير مصاباً بالدهشة لعدم مساعدة المفوض السامي له ومتابعة مساعدته لدباس لتجديد ولايته.
بأي حال في بيروت ظل الأمير جورج لطف الله على سعيه نحو غايته إلى الرئاسة فالإمارة والملكية.. وكان يعرف أن هناك شيئين رئيسيين قادرين على جلب الناس وهما: الطعام الشهي والذهب.
وكان الأمير جورج لطف الله قد نزل فور وصوله إلى بيروت في قصر سرسق الذي استأجره بأغلى الأثمان، وكان أول ما اعتنى به فور وصوله أنه سحب من المصارف بطريقة علم بها كل الناس أموالاً كبيرة، ثم استخدم عنده أمهر وأحذق طباخ في ذلك الزمان، طانيوس الشمالي الأستاذ الأكبر في علم الطعام بالأمس وصاحب محال وفنادق طانيوس الشهيرة.
وفتح الأمير جورج لطف الله أبواب القصر على مصراعيه، يدخله السياسيون والوزراء والنواب والصحافيون والإعلاميون وكل من له مكانة.. وكان يغدق الكثير من عطاياه.. وكم من الألقاب التي أطلقت على الأمير جورج لطف الله الذي كبر رأسه أكثر فأكثر..
حتى أن ما أغدقه جورج لطف الله جعل الكثير من الناس يعتقدون أنه واصل إلى الرئاسة لا محالة.. ليكتشف مشروع الرئيس والملك جورج لطف الله أن حكايته انتهت وأن كثيرين كانوا يصلّون كي لا تنتهي الحكاية التي انتهت فعلاً بعد دعاوى رفعها الأمير جورج لطف الله على سياسيين وصحافيين استفادوا من سخائه، وخلصهم منها كلها آنئذ المحامي الشاب اللامع عبدالله اليافي.