IMLebanon

جبهة لبنانية للإنقاذ

 

عندما التقى رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط رؤساء الحكومات السابقين فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمّام سلام، حُكي عن انطلاق البحث في تشكيل جبهة جديدة معارضة للعهد، من دون الذهاب إلى التفاصيل والخلفيات والأبعاد ومن دون أن ينتج عن ذلك الإجتماع أي بلورة عمَلية لتشكيل مثل هذه الجبهة. هي ليست الجبهة المحتملة الوحيدة التي يحكى عنها، ذلك أن هناك من يدعو إلى جبهات معارضة أخرى. فهل يمكن أن تلتقي كل هذه الدعوات في جبهة لبنانية واحدة للإنقاذ؟

ليس موضوع الجبهات جديداً على لبنان واللبنانيين، ولكنّ التحدّي هذه المرّة يكمن في المخاطر التي تتهدّد الكيان اللبناني وتتطلّب عملية إنقاذ تتجاوز التحفّظات الشخصية والمطالب الفئوية، لتذهب نحو حمل مسؤولية تحويل وجهة سير البلد من طريق جهنم إلى طريق التعافي والعودة به إلى حال الإستقرار السياسي والإجتماعي والنفسي والطبي والمالي. ذلك أن البلد الموضوع بفعل سياسة محور العهد و”حزب الله” في الحجر الكامل، يحتاج إلى عملية إنقاذ كاملة لا تستثني حتّى هذا المحور الذي يبدو أنّه أيضاً يحتاج إلى خشبة خلاص.

 

قوة الثورة وقوة السلطة

 

لقد أثبتت ثورة 17 تشرين أنّها غير قادرة على إحداث التغيير المطلوب، على رغم أنّها في انطلاقتها وعمرها الأول حملت المطالب الرئيسية التي يمكن أن يحلم بها كل من يريد أن يبني وطناً على قياس المستقبل، لا يخجل من حاضره ولا يهرب من ماضيه. فهذه الثورة لم تكن ولا يمكن أن تمتلك قوة التغيير التي يمكن أن تُحدث الإنقلاب المطلوب، بالنظر إلى قوّة المحور الممسك بالأزمة والرافض أي تنازل من أجل الإنقاذ، وبسبب تعقيدات الوضع اللبناني. لذلك ربّما من المطلوب أن تلتقي هذه الثورة مع قوة سياسية مجتمعية مدنية حزبية، تحمل التطلعات نفسها لتشكّل ذراع هذه الثورة وتتمكنان معاً من إحداث التغيير المطلوب.

 

فالثورة كانت حراكاً بلا سلطة وبلا قدرة على إسقاط السلطة. والسلطة كانت قوّة أمر واقع ولا تزال ولكنّها لا تملك قوّة الحراك الشعبية ولا تحمل أهدافه وتتّهمه بالخيانة والتآمر وأخذ الأوامر من السفارات. لذلك لا يستطيع الحراك المدني أن يبقى لوحده ولا يمكن للقوى التي تحمل أهدافه وتعارض هذه السلطة أن تبقى بعيدة عن التجمّع والتلاقي، من أجل حمل أهداف هذا الحراك وحمل هذه السلطة على التسليم بعجزها والذهاب في خطوة أولى مطلوبة نحو حكومة اختصاصيين وتنظيم انتخابات نيابية مبكرة، تعيد بناء المؤسسات السياسية الرسمية وتعيد الحياة إلى شرايين البلاد لتبدأ طريق العودة من جهنم.

جبهات وانقسامات

 

قبل الإستقلال وبعده انقسم لبنان بين كتلتين: “الكتلة الوطنية” و”الكتلة الدستورية”. كان الإنقسام سياسياً بين من يؤيّد بشارة الخوري ويريد الإنتهاء سريعاً من سلطة الإنتداب الفرنسي، ومن يؤيّد أميل إده ويخاف من أن يؤدّي إنهاء هذا الإنتداب بسرعة إلى تهديد الإستقلال. في العام 1943 انتهى عهد إده بعد الإستقلال وفي العام 1952 انتهى عهد بشارة الخوري الذي جدّد لنفسه في رئاسة الجمهورية، واضطرّ إلى الإستقالة تحت ضغط الجبهة الوطنية الإشتراكية التي كان قطباها الأساسيان كميل شمعون وكمال جنبلاط. ولكن بعد أربعة أعوام فقط صار كل من الرئيس كميل شمعون وكمال جنبلاط في مواجهة الآخر، وفي جبهتين متقاتلتين خاضتا أحداث 1958 التي انتهت باتفاق أميركي مصري على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.

 

أرسى شهاب قواعد جديدة في الحكم وفي إقامة مؤسسات الدولة ولكنّ الإنقسام السياسي استمر من دون أن يكون طائفياً ومذهبياً. جمع “النهج” القوى التي تجمعت حول شهاب بينما تجمعت المعارضة حول كميل شمعون. هذا الإنقسام تجلّى في انتخابات العام 1968 وقيام الحلف الثلاثي بين كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده وكان يضم قيادات إسلامية. ومع الإنقسام اللبناني حول العمل الفلسطيني المسلح في لبنان وتأسيس الحركة الوطنية برئاسة كمال جنبلاط، ذهب لبنان إلى الإنقسام الكبير وفي ظل هذا الإنقسام دخل الحرب في العام 1975. ولكن على الرغم من كلّ الأخطار التي نشأت في الحرب وبسببها لم يكن هناك خوف على مصير لبنان كما هو حاصل اليوم.

 

في العام 1976 التقى كمال جنبلاط وبشير الجميل في محاولة للإتفاق على مواجهة دخول الجيش السوري إلى لبنان، بعد الخلاف الكبير الذي قام بين النظام السوري وبين “الحركة الوطنية” بقيادة كمال جنبلاط ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة باسر عرفات. ولكنّ هذا اللقاء لم يُكتب له النجاح وبقي محاولة يائسة في بحر من الإنقسامات. وفي العام 1980 تجدّدت اللقاءات بين ممثلين لوليد جنبلالط وممثلين لبشير الجميل بمسعى من مدير المخابرات وقتها العقيد جوني عبدو. ومن المفارقات أن ثلاثة موارنة كانوا يتولّون التفاوض، سمير فرنجية عن جنبلاط وأنطوان نجم وجوزف أبو خليل عن بشير الجميل و”القوات اللبنانية”. ولكن هذه اللقاءات انتهت إلى لا شيء على الرغم من أن الثلاثة توصلوا إلى صياغة مسودّة اتفاق لم يتم التوقيع عليها. ولو نجحت هذه المحاولة لكانت جنبت لبنان الكثير من الحروب والمخاطر وخصوصاً حرب الجبل.

 

انتهاء الحرب في العام 1990 فرض تحولات كبيرة. ولكنّ سلطة الإحتلال السوري التي قبضت على الوضعية اللبنانية بالكامل بعد اتفاق الطائف منعت أي عملية التقاء. بعد العام 2000 ونداء المطارنة الموارنة بدأت عملية التغيير الفعلية. مصالحة الجبل التي تمّت بين البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير ومعه “لقاء قرنة شهوان” و”القوات اللبنانية”، وبين الحزب “التقدمي الإشتراكي” ووليد جنبلاط، كسرت المحرّمات وأسّست لجبهة لبنانية جديدة رسمت معالم طريق التلاقي الجديد والإنقاذ. هذا اللقاء كان مثمراً أكثر من لقاءات بشير الجميل وكمال جنبلاط ولقاءات ممثليهما، وكان رفيق الحريري القطب الثالث في هذا المحور الذي كان يبشر بإنهاء سلطة الوصاية السورية في انتخابات العام 2005 بطريقة دستورية. وفي هذا الجوّ جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط لكي يشكّل دافعاً قوياً للمضي في هذا الإتجاه الذي تبلور في ثورة 14 آذار 2005.

 

جبهة الجبهات

 

بعد 15 عاماً على تلك الثورة باتت الحاجة ملحّة اليوم إلى ثورة جديدة تحمل نَفَس 14 آذار وتوجّهات ثورة 17 تشرين. لا يوجد طرف واحد يقدر على إحداث التغيير المطلوب. لا ثورة 17 تشرين تقدر على قلب النظام القائم بقوّة الشارع الذي غابت عنه، ولا يمكنها أن تذهب إلى انقلاب ديموقراطي عن طريق الإنتخابات. والقوى السياسية المتفرّقة بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية تستطيع أن تفرض عملية التغيير وترغم هذا النظام على الإستسلام، ذلك أنّه لا يزال يتمتّع بقوة “الشرعية” التي يستمدّها من رئاسة الجمهورية ومجلس النواب ومن سلطة الميليشيا التي يمثّلها “حزب الله”. ولذلك لا يمكن الرهان على جبهات من هنا ومن هناك على قياس قوى سياسية صغيرة. هذه القوى مع اختلافاتها على مواضيع كثيرة غير أساسية، تستطيع أن تتّفق على خريطة طريق تبدأ بقيام جبهة وطنية لبنانية واحدة تجمع حولها الشارع وثورة 17 تشرين، على طريقة “الجبهة الوطنية الإشتراكية” التي أجبرت بشارة الخوري على الإستقالة في العام 1952. تلك الجبهة لم تكن تملك أكثرية نيابية ولكنّها استطاعت أن تحرّك الشارع. ولكنّ المفارقة اليوم، بالمقارنة مع تلك المرحلة، أنّ بشارة الخوري كان متّهماً بخرق الدستور وبالتجديد وأنّه كان منسجماً مع نفسه ولم يكن لديه أيّ توجّه للتحدّي وإقحام الجيش في المواجهة وإراقة الدماء، وهذا الأمر كان يرفضه قائد الجيش فؤاد شهاب، ولم تكن لديه، أي الخوري، أيّ ميليشيا يستند إليها وتتمسّك به رئيساً بالقوة ولو انهار البلد. ولذلك اختار أن يستقيل بطريقة ديموقراطية محت خطيئة التجديد. واليوم لا يشبه الرئيس ميشال عون بشارة الخوري ولا يلغي تفاهمه مع “حزب الله”. ولكن في المقابل إن القوى المعارضة للعهد ولـ”حزب الله” تستطيع، إن أرادت أن تتوحّد، تغيير الوضع القائم، خصوصاً أنها تمتلك من القدرات ما يفوق بكثير قدرات معارضة كميل شمعون وكمال جنبلاط قبل سبعين عاماً. هذه القدرات إن وضعت في الإتجاه الصحيح تستطيع أن تكون جبهة لبنانية وطنية للإنقاذ تحمل على كتفيها عبء ثورة الأرز وثورة 17 تشرين وقوة الشارع. جبهة تحصد الأكثرية النيابية وتنتخب رئيساً جديداً للجمهورية وتشكّل حكومة إنقاذ، وتعـــيد الحياة الديموقراطية إلى البلد وتستعيده من جهنّم وتحيي فيه الأمل.