IMLebanon

الأرثوذكس أبناء كنيسة لا أبناء طائفة

 

الدور الأرثوذكسي غياب أم تغييب؟ (1 من 2)

 

 

 

منذ إنشاء دولة لبنان الكبير كان للأرثوذكس موقف مستند الى القول إن الفرنسيين حين أتوا بشارل دباس الأرثوذكسي رئيساً للجمهورية أرادوا أن يلحقوا الأرثوذكس زعماء وشخصيات نخبوية بالسياسة الفرنسية وضمّهم الى موقف الموارنة في تبني مقولة «فرنسا أمنا الحنون» يقول الرئيس الفرزلي. والسؤال لماذا أتوا بأرثوذكسي رئيساً للجمهورية؟ لأن الأرثوذكس كانوا واجهة لبنان، فهم سكان الساحل الأكثر تقدماً وثقافة وعلماً ومالاً إضافة الى علاقاتهم المتينة بالخارج. ولكن عندما تكشّفت نية الفرنسيين تداعى الأرثوذكس الى مؤتمر عقد في 28 حزيران سنة 1928 ورفضوا نتائج إتفاقية سايكس- بيكو على لبنان، فما كان من الفرنسيين إلا أن أعادوا انتخاب شارل دباس في 1929 و1931 الى 1933 إمعاناً في مخططتهم.

 

هل كان هذا الرفض بهدف الانضمام الى ركب العرب؟ ينتفض الرئيس الفرزلي مدافعاً «هم العرب، هم الأساس وكنيستهم كنيسة عربية شرقية وهذا هو الاستهداف المقصود. وحين أصروا على موقفهم تم إبعادهم عن السلطة فأزاحوا شارل دباس وأتوا بحبيب باشا السعد رئيساً وكرت من بعده السبحة…».

 

كان الأرثوذكس يرون أنفسهم في سوريا وفلسطين الطائفة المسيحية الأولى، الأكثر عدداً والأقوى قدرة وهذ واقع فعلي وكان لهم تأثير في صناعة الثقافة السياسية عند المسلمين وتبوأوا قيادات الأحزاب القومية النهضوية وكانوا صناعها الفكريين ومنظريها. وهؤلاء لم يناضلوا على صعيد ضيق «في كسروان أو البسطا»- يقولها ضاحكاً إيلي الفرزلي – بل على صعيد الأمة الأرحب».

 

سنة 1943 أعتبر الموارنة أن الفكر الأرثوذكسي هذا فكر معادٍ ويتناقض مع فكرة لبنان بحدوده الحالية التي يشاؤونها وكانوا ضد نظرية الوحدة العربية رغم مساهمة أعلام موارنة في الفكر التقدمي والاشتراكي والنهضوي. لذلك كان النظام وأصحاب القرار العميق في مواقع السلطة المختلفة، رئاسةً وأجهزةً وكنيسةً يعملون لإنتاج قيادات أرثوذكسية ملتزمة بالخط السياسي الماروني.

 

إقصاء كنيسة الأرض هدف صهيوني

 

عندما انزرع الكيان الإسرائيلي في المنطقة ازداد موقف الأرثوذكس حدة في الصراع بين إسرائيل والأمة العربية وفق ما يقول الفرزلي وتطور أكثر فأكثر باتجاه الكنيسة الأرثوذكسية. كان الأرثوذكس من أبرز المناضلين في فلسطين كما كان البطاركة الذين تعاقبوا ما بعد 1948وحتى 1969 بطاركة عروبيين وكذلك جهابذة المطارنة مثل ليفوس سابا، بولس الخوري، ابيفانيوس واغناطيوس الفرزلي لذلك شنّت الحرب على هذه الكنيسة فأوتي بالبطرك هزيم المرتبط بالغرب وتم ضرب كل المطارنة واتهامهم بالشيوعية. وألغي تنفيذ القانون الذي يعطي للأرثوذكس حق انتخاب مطارنتهم، وصار البطريرك الأرثوذكسي تماماً كما في الكنيسة المارونية، متقدماً وليس اول بين متساويين وصار تأسيس الكنيسة بكل أوجهه يعتمد على من هم ملتزمون بالغرب وتم العمل جدياً على إزاحة وجهة الكنيسة من الشرق الى الغرب وساعد في ذلك وجود النظام الشيوعي في روسيا. وتأكيداً على ذلك ما نراه اليوم حيث أن الحرب على غزة ومقتل آلاف الأبرياء وبغض النظر عن أسبابها ومن قام بها، لم تستولد اي تصريح او موقف حقيقي من الكنيسة الأرثوذكسية لأنّ الأولوية للانتماء الغربي.

 

الأرثوذكس أبناء كنيسة

 

لا أبناء طائفة

 

وجه آخر أكثر عمقاً من وجوه إبعاد الأرثوذكس يكشفه الفرزلي شارحاً انه لطالما كان الأرثوذكس في لبنان والمنطقة أبناء كنيسة لذلك كانت كل قياداتهم موزعة على الأحزاب كافة نتيجة عدم وجود شيء اسمه انتماء طائفي. فالانتماء الى الكنيسة هو انتماء إيماني كونها جسد المسيح بينما الانتماء الى الطائفة هو تكتل قبلي يجعل افرادها يقاتلون من أجلها. لذا نشأ العبء الأيديولوجي الفكري لتدمير هذه الكنيسة على مستوى الشرق تدميراً كاملاً إذ إن مسيحيي هذه المنطقة هم الشهود على ولادة السيد المسيح في بيت لحم وكنيسة الشرق هي كنيسة الأرض ولا تزال اللغة الآرامية التي تحدث بها المسيح موجودة في معلولا. لذا عند تفريغ المنطقة من الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين تصبح ولادة السيد المسيح مثل ولادة الإله مترا في بلاد ما بين النهرين الذي ولد عن طريق الحبل بلا دنس. وشهد العالم مواكبة لهذا الأمر لجعل الإنجيل والعهد الجديد جزءاً من التوراة والمسيح جزءاً ممن سبقوه، وقام اليهود بفتح قنوات مع الفاتيكان كانت الغاية منها وعدهم للفاتيكان بكنيسة القيامة التي كانت سبباً من أسباب الحروب الصليبية تعويضاً عن كنيسة الأرض التي تم ضربها. بكلام آخر أرادوا القول «نحن نأخذ القدس ونبقي لكم كنيسة القيامة» وهذا يتطلب القضاء على كنيسة الأرض حتى لا تدعي أنها صاحبة الحق بالتفاوض.

 

الأرثوذكس فهموا المخطط وجبهوه ولكن العبء عليهم كان من الاستهداف الصهيوني ومن الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها المسلمون في المنطقة تجاههم مثل التهجير والقتل وردات الفعل العنيفة. فدفعوا أثماناً باهظة في فلسطين والعراق وسوريا لأنهم كانوا الأكثر عدداً وتواجداً والدليل أنهم باتوا اليوم يشكلون 1% فقط من سكان فلسطين بعد أن كانوا 22% ولولا صمودهم في وادي النصارى لكانت تهجّرت غالبيتهم من سوريا.

 

الإستقطاب الماروني

 

لبنانياً استطاعت الأحزاب المارونية خلال الحرب وتحت عنوان الدفاع عن المسيحيين أن تستقطب في ظل الفراغ القائم الكثير من الشباب الأرثوذكسي وهذا ما أدى الى خسارة كبيرة في صلب الفكرة الأرثوذكسية. «لقد استطعت بعد 2005 وعبر تأسيس اللقاء الأرثوذكسي مع رفاق لي استقطاب عدد كبير جداً من النخب الأرثوذكسية واسقطنا قانون الستين. لكن المسلمين كانوا رافضين لوجود سياسي مسيحي خارج إطار الأحزاب المارونية رغم تلقف بعضهم للقانون الأرثوذكسي الذي كان يمكن ان يشكل خياراً ثانياً أو ثالثاً بديلاً عن خيارالمارونية السياسية. اللقاء الأرثوذكسي الذي بقي حالة نخبوية ولم يتحول الى حزب جوبه أيضاً من أهل البيت، من بعض المطارنة الأرثوذكس الذين رأوا فيه إمكانية تغيير المعادلة التقليدية الموجودة على الأرض مسيحياً، لم يريدوا دوراً مدنياً حقيقياً للأرثوذكس خارج إطار الكنيسة».

 

ويعطي الرئيس الفرزلي مثالاً على استئثار الموارنة بالدور السياسي قائلاً إن مدينة زحلة الموسومة بطابع كاثوليكي كانت معروفة بكونها مقبرة للأحزاب، إنما ومنذ العام 1992 بات الشيعة في الكرك مثلاً والسنة في سعدنايل يتحالفون مع التيار الوطني او القوات اللبنانية تحت عنوان ان هذه الأحزاب هي الأكثر عدداً وقادرة على مبادلة الأصوات وأتى ذلك على حساب العائلات الكاثوليكية او الأرثوذكسية الطامحة للعب دور سياسي وشكل ضربة قاضية لهم.

 

تألّقَ البنيان وسقط الدور

 

في وصفه لواقع الأرثوذكس اليوم يتساءل الفرزلي تساؤلاً خطيراً: لماذا بالرغم من المؤسسات الأرثوذكسية الكبرى التي تم تشييدها مثل جامعة البلمند ومستشفى القديس جاورجيوس وغيرهما سقط الدور الأرثوذكسي؟ لماذا كبّرت الطبقة الإكليريكية المؤسسات وحجّمت الدور وألقت بمسؤولية إيجاد دور على الشخصيات السياسية؟ وكيف يمكننا كسياسيين خلق هذا الدور في ظل مجتمع طوائف إذا لم يكن هناك تراصّ تحت مظلة الكنيسة؟ والجواب يكمن في أن الخطأ الكبير كان في تعطيل القانون الذي يعطي للعوام الدور في انتاج القيادات الإكليريكية كما في قوانين الانتخاب كلها منذ قانون الستين التي اعتمدت على استتباع واستيلاد التمثيل الأرثوذكسي في كنف الطوائف الأخرى.

 

حصة الأرثوذكس في الدولة 17 مديراً عاماً لكن ليس هناك حالياً إلا 9، ومن أصل عشرة رؤساء محاكم جنايات لا يوجد اليوم أي رئيس أرثوذكسي حتى بين رؤساء الأجهزة الأمنية ليس هناك أي أرثوذكسي. «لقد ألغوا القيادات الأرثوذكسية وهي ثاني طائفة مسيحية في لبنان ومستمرون في هدفهم الأصلي وهو الإجهاز على الطائفة الأرثوذكسية كطائفة شريكة في صناعة القرار وليس مستتبعة كما أجهزوا على طائفة الروم الكاثوليك بعد رحيل كبار رجالاتها».

 

القانون الأرثوذكسي كان للدفاع عن المسيحيين كافة يؤكد الفرزلي بقناعة تامة وعن الموارنة «لقد طرحت مواصفات الرئيس القوي والمناصفة الفعلية. لكن الكل تراجعوا بسبب صفقات سياسية وانتخابية وحوربت من قبل الموارنة رغم دفاعي المستشرس عنهم. الشراكة لا يمكن أن تتم بين مطران وبطريرك بل يجب أن تكون نابعة من إرادة الجماعات اللبنانية. علاقة المسلمين بالمسيحيين ليست علاقة تعايشية سلبية بل إن لعبة التفاعل وصناعة الأفكار المشتركة هي التي صنعت التعايش بكل بهائه في العام 1943 وانشأت نضالاً مشتركاً حقيقياً انتج واقع الاستقلال. اليوم هناك غياب مطلق للأرثوذكس عن الساحة وذوبان في الأحزاب المسيحية المارونية، الدور القيادي ضرب والدور الاستشاري يكاد يغيب. إنه وضع مَرَضيّ حقيقي عند الأرثوذكس لا نعرف متى يتم الشفاء منه. ربما يأتي هذا التراجع ضمن التراجع المسيحي العام فحتى الموارنة اليوم لا يصنعون أدواراً بل وظيفتهم إبقاء القبيلة تشعر أنها موجودة لا أكثر».

 

 

ولكن تبقى كلمة حق تقال أن الكنيسة أفهم وأذكى من السياسيين لأنها تملك العمق والجذور هي التي بذلت دماً ونضالاً عبر التاريخ لتحافظ على ارتباط الناس بأرضهم فهل تستعيد دورها؟