IMLebanon

باريس تخشى الفوضى والتفكُّك

 

 

هناك صورة قاتمة جداً عن مسار الأزمة في لبنان يتمُّ تداولها في الأقنية الديبلوماسية الدولية. وثمة استنفار في باريس لتدارك الأسوأ المنتظر. ولكن، هل الفرصة متاحةٌ لنجاح مبادرتها؟

في الأسابيع الأخيرة، وعلى رغم انشغاله بالانتخابات الرئاسية، لم يقلِّص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حجم اهتمامه بالملف اللبناني، من خلال الطاقم المكَّلف بالمتابعة والسفيرة آن غريو.

 

يدرك الفرنسيون أنّ من الصعب على لبنان المأزوم أن يمرِّر استحقاقاته الدستورية كلها، التشريعية والتنفيذية، في شكل طبيعي، فيما هو يتعثّر بأصغر الصغائر. ويعرفون أنّ هناك مفترقاً حاسماً يقف عنده حالياً. فإما الدخول في الحلّ وإما الانزلاق إلى المجهول. وهذا ما يحاولون اليوم تجنّبه.

 

ولذلك، يحاول الفرنسيون الحفاظ على «شبكة الأمان» التي أقاموها من أجل لبنان، والتي تضمّ القوى الإقليمية والدولية الأكثر تأثيراً في الملف، ولاسيما الولايات المتحدة وإيران والمملكة العربية السعودية والمجموعة الخليجية. ويعتقدون أنّهم نجحوا حتى اليوم في الحصول على ضمانات من هذه القوى لصيانة الحدّ الأدنى من الاستقرار اللبناني.

 

في مطلع العام الجاري، كان الانطباع في باريس هو أنّ مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني باتت على وشك التوصل إلى اتفاق، ما يعني تبريد الأجواء بين إيران وكل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، ويتيح إنجاز تفاهمات سريعة في العديد من مناطق الشرق الأوسط، ومنها لبنان.

 

لكن اندلاع الحرب في أوكرانيا عطَّل الانفراج، فبقيت الجهود الفرنسية في دائرة المراوحة. واليوم، بات هاجس الفرنسيين منع انتقال لبنان من التأزّم العميق إلى الفوضى الشاملة التي تهدِّد بانهيار الدولة.

 

ومراراً، حذَّر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان من فوضى تقود إلى تفكّك تام للدولة اللبنانية. واليوم، يكثّف الفرنسيون مساعيهم مع إدارة الرئيس جو بايدن لمنع الفراغ والفوضى الشاملة في لبنان، بحيث يصعب تدارك العواقب.

 

وعلى غرار الأميركيين والسعوديين، ينظر الفرنسيون بارتياح وتفاؤل إلى التغيير الذي شهده البرلمان اللبناني الجديد. ويعتبرون أنّ الانتخابات النيابية حقَّقت جانباً من الآمال التي يتوق إليها التغييريون والمجتمع المدني، والتي عبَّرت عن نفسها في 17 تشرين الأول 2019. لكنهم يحرصون على أن يبقى التغيير «ناعماً»، ويحاذرون تحوُّله إلى تصادم يطيح كل شيء.

 

قبل الانتخابات، سعى الفرنسيون إلى تسوية «واقعية» للمأزق اللبناني. و»الواقعية» في حسابهم تعني القبول ظرفياً بتنازلات لإيران و«حزب الله»، ولو على حساب القوى الأخرى والدولة.

 

وفي اعتقادهم أنّ هذا يبقى أفضل من التصادم الذي تمَّت تجربته مراراً ولم يكن مجدياً، وعلى العكس كان يزيد الأمور تعقيداً، ويضاعف خسائر القوى الأخرى، فيما الميزان يبقى راجحاً لمصلحة إيران وحلفائها.

 

يقترح الفرنسيون إراحة «حزب الله» والوقوف على جانب من مطالبه، مقابل تشجيعه على الانخراط في اللعبة السياسية والقبول بمنطق المؤسسات. وعلى رغم أنّ الفرنسيين يحظون بتغطية واشنطن في مبادرتهم، فإنّ الأميركيين لا يشاطرونهم وجهة النظر المتساهلة إزاء إيران.

 

يريد الفرنسيون دفع اللبنانيين إلى حوارٍ وتسويةٍ تمنع الدولة اللبنانية من السقوط النهائي والبلد من التفكّك. وقد لا يتمّ هذا الأمر بالشكل المثالي، أي في ظل سلاح «حزب الله» ونفوذه داخل المؤسسات، لكنه يبقى أفضل من الانهيار الكامل والفوضى.

 

ويريد الفرنسيون منع الفراغ في المؤسسات كلها، أي تأمين انتخاب رئيس جديد للمجلس النيابي سريعاً، ليباشر عمله التشريعي البالغ الأهمية، وتشكيل حكومة جديدة ثم انتخاب رئيس جديد للجمهورية على قاعدة التوافق، ما يتيح الخروج من المأزق المالي والاقتصادي والاجتماعي الشديد التردّي وتداعياته الخطرة.

 

ولهذه الغاية، سيواصل الفرنسيون دعمهم الإنساني للبنان، بالتعاون مع الأميركيين والسعوديين، ويحضّرون العدّة لانطلاق الحل الاقتصادي الشامل فور اكتمال المشهد سياسياً. وفي الدرجة الأولى، يريدون إنعاش مقررات «سيدر».

 

وفي هذا السياق، هم يشجعون الأطراف كافة على التوصُّل إلى حلّ لمأزق المفاوضات مع إسرائيل حول تقاسم مخزونات الغاز والنفط في المياه. كما يشجعون واشنطن على استئناف وساطتها لتحريك المفاوضات.

 

وأهمية هذا التدخّل تكمن في أنّ إسرائيل ربما تكون على وشك المباشرة بالاستخراج من حقل «كاريش»، بعد وصول المنصّة المنتظرة خلال الأسابيع المقبلة، ما يقد يفتح الباب لمواجهة خطرة مع لبنان، فيما تهيَّبت شركة «توتال» الفرنسية الإقدام على أي خطوة لمصلحة الجانب اللبناني، في ظل الخلاف الحدودي.

 

في «الأجندة» الفرنسية، الهدف الأول تكليف رئيس جديد للحكومة، بعد انطلاق المجلس النيابي الجديد. والأرجح أنّها ستفضّل استمرار الرئيس نجيب ميقاتي، بعد خسارة «حصانها» التقليدي سعد الحريري. وبعد ذلك يأتي دور الملف الرئاسي. وفي الخلاصة، هناك حاجة ماسّة لإنتاج حلّ نهائي للأزمة، وذلك يحتّم عقد مؤتمر دولي تأسيسي تخطّط فرنسا لاحتضانه، ويتمّ فيه التفاهم على كل شيء.

 

ولكن، هل يتاح لهذا المؤتمر أن ينضج؟ وهل ينعقد «على البارد»، فيتوِّج مرحلة تهدئة بالحدّ الأدنى؟ أم ينعقد في حُمّى الفراغ والفوضى والتفكّك، ليعيد توزيع كل شيء؟