IMLebanon

باريس تعثَّرت لفقدانها أدوات التأثير ولخطأ الانحياز وعدم إثبات الحياد

 

 

طوت صفحة فرنجية وانخرطت في المواصفة القياسية لرباعي الخماسية

 

 

أنهى الموفد الرئاسي الفرنسي جان – إيف لودريان زيارته الجديدة إلى بيروت، كما بدأها، بخفيّ حنين. بدا خائبا من مآل مهمته وما كان يأمل أن يتحوّل مبادرة عملية تنتهي بنجاح فرنسي وشخصي ولبناني، أي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. إذ هو اصطدم برباعي المجموعة الخماسية، وتحديدا بممانعة سعودية لأي بعث أو انبعاث في منظومة الإفلاس. فانتقل من رئاسة سليمان فرنجية، التي كانت مسلّمة لدى باريس والثنائي الشيعي، إلى الخيار الثالث التوافقي، من غير أن يدخل في الأسماء.

لا يُخفى أن لودريان استخلص العبر من التعثّر والفشل الذي نتج من مقاربة خلية الأزمة الرئاسية للملف اللبناني، منذ أن قرّرت أو ارتأت أن مداهنة حزب الله هي السبيل الوحيد لانتخاب رئيس ولتحقيق انتصار ديبلوماسي فرنسي في المشرق يبحث عنه الرئيس إيمانويل ماكرون، كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. فكان أن استولدت خلية الأزمة ما اصطُلح على تسميته صفقة فرنجية – نواف سلام التي تقوم على إعطاء الحزب رئاسة الجمهورية مقابل رئاسة الحكومة إلى القوى التي تعارضه.

جلبتْ هذه المقاربة المسطّحة للتعقيدات اللبنانية، إلى الفرنسيين لا شيء سوى مزيد من وجع الرأس. فماكرون منذ أن استعاد في 1 أيلول 2020 النفس الكولونيالي في مخاطبة المسؤولين اللبنانيين، فاته أن هؤلاء، بغالبيتهم العظمى ما عدا استثناءات قلّة، يدركون عنه أكثر ممّا يدرك هو عنهم، ويتفوّقون عليه تذاكيا وتعاقلا. هادنوه بداية، عند تقريعهم، حتى تملّكوا منه تدريجا، فانتقلوا من فشل إلى فشل، وأنهوه من ضيق إلى ضيق.

كان يُفترض بلودريان، وهو العالم أكثر من أقرانه الذين عملوا على الملف اللبناني، أن يُدرك هذه الحقائق. هو فعل، لو متأخراً. طوى تدريجيا ترشيح رئيس تيار المردة، وانخرط شيئا فشيئا في المواصفة القياسية التي وضعتها المجموعة الخماسية للرئيس، وهي مواصفة بتوقيع سعودي بائن وظاهر: لا رئيس من الطبقة السقيمة. لا رئيس ذا لوثة إفسادية، سياسية أو مالية. لا رئيس يشكّل استمرارا لنهج الإفلاس.

لا يحجب هذه الحقيقة إصرار الثنائي، ولا سيما رئيس مجلس النواب نبيه بري، على نفي التخلّي الفرنسي الكلّي والنهائي عن فرنجية. إذ لم يترك لودريان لقاء إلا وأفصح عن هذا التخلّي. لا بل هو قال لأحد محاوريه إنه في زيارته الأخيرة كان لا يزال مقيما على أمل لو بسيط بإمكان تعويم ذلك الترشيح. أما اليوم فبات على قناعة ثابتة بأن لا مكان له، وأنه لا بدّ من البحث عن الخيار الثالث.

أصلا، أخطأت باريس مرّتين في سلوكها الحواري:

-فقدتْ، بدءًا، الحيادية التي يُفترض بأي وسيط أن يتحلى بها، منذ أن تبنّت ترشيح فرنجية.

-لاحقا، لم تسعَ إلى تبديد انحيازها. إذ كان يُفترض بها أن تعلن جهارا تخليها عن دعم أي مرشح قبل دعوتها المتجددة إلى الحوار.

ويعود التعثّر الفرنسي كذلك إلى غياب الرؤية المستدامة، والأهم الأداة التي باستطاعة باريس استخدامها لفرض وجهة نظرها، على غرار ما فعلت قطر إبّان اتفاق الدوحة (2008)، بامتلاكها الأدوات المناسبة للإقناع، إلى جانب أن الأحداث الدامية حينها جعلت مختلف الأطراف في حاجة إلى تسوية تخرجهم من عنق الزجاجة. فكان الإتفاق الذي نظّم الحكم اللبناني 14 عاما (لم تكن الرياض راضية به لأنه أتى بسابقات من خارج اتفاق الطائف)، لينتهي مع اختتام ولاية الرئيس ميشال عون.

لم يُسلّم لودريان بالفشل. هو مستمر في مهمته الرئاسية حتى بعد أن ينتقل إلى وظيفته الجديدة رئيسا للوكالة الفرنسية لتنمية العلاقات السعودية، فيما تزخّم قطر مسعاها على أنقاض التعثّر الفرنسي وفي ظلّ اللامبالاة الأميركية والتصلّب السعودي الرافض لأي تسوية سوى تلك التي تقود الى حكم خالٍ من الفساد السياسي والمالي، تقطع كليا مع ماضي المنظومة، وتؤسس لحكم تريده القيادة السعودية الجديدة على قياس تجربتها الحديثة.

يبقى العامل المستجدّ المتمثّل في بدء الحوار السعودي – الحوثي المباشر في الرياض. وهو سابقة فُسّرت على أنها مؤشر صلب على تجاوز العثرات التي شابت اتفاق بكين بين المملكة العربية السعودية وإيران. ولا ريب التأثير المباشر لهذا التطوّر على الملف اللبناني، حتى لو أنه غير حاضر رسمياً في مندرجات الإتفاق.