IMLebanon

مشروع التقسيم يفتقر إلى مقوّماته

 

بعيد انطلاق التظاهرات السورية في آذار (مارس) ٢٠١١، وتحديداً حين أظهر النظام السوري مقدرة على الصمود أمام الحراك الاحتجاجي، وبدا أن دمشق لن تشهد سقوطاً سريعاً للنظام يشابه ما جرى في تونس ومصر، بدأت تظهر تصورات متعددة ومتنوعة لمآلات الصراع الدائر. وكان من أبرز هذه التصورات سيناريو لتقسيم سورية يبتدىء بإقامة بشار الأسد دولة للعلويين برئاسته في الساحل السوري، من دون أن يهتم واضعو هذا السيناريو كثيراً بطبيعة الدويلة أو الدويلات السورية الأخرى.

بدا هذا التقسيم وكأنه يكتمل بمجرد انفصال العلويين عن سورية وكأنهم جماعة وافدة وزائدة على الشعب السوري وليسوا مكوّناً أصيلاً له، أو ربما من المكوّنات الأكثر أصالة.

ولم يحتج هذا التصور لإيراد مبررات لنفسه فاكتفى باعتماد إشاعات وأخبار واهية منذ ذاك الوقت وحتى الآن، كتكرار إشاعات إقامة الرئيس الأسد في الساحل السوري، وتحديداً في القرداحة، بلدة أبيه وجده، أو إيراد حكايات لم تحتج لأي أدلة عن وجود أسلحة وجنود وذخائر وأموال مهولة في مناطق العلويين استعداداً لإقامة دويلتهم. وليس من المهم ذكر جميع الإشاعات والحكايات المشابهة، لكن لا بد من التأكيد أنها كانت كافية لإتمام جميع مستلزمات إقامة دولة علوية في الساحل السوري.

وبالعموم فإن تقسيم سورية أمر غير ممكن البتة، لا اكتفاء بدولة علوية ولا اشتمالاً على دويلات أخرى متنوعة الأوصاف والبنى. فعلى رغم أن التقسيم ليس معيباً إن كان يمكنه إنهاء البلاء الذي يعيشه السوريون الآن، ولا يضيرنا أن ندفع به إن كان يحقق ذلك، إلا أنه لا توجد له أية مقومات أصيلة أو مستحدثة وليدة الصراع الدائر بكل تنوعاته على الأرض السورية. فعلى رغم وجود أشكال عدة لصراع طائفي أو قومي أو ديني إلا أنها ليست من أصناف الصراع الطاغية أو المسيطرة في الساحة السورية حتى نتوقع أن يكون التقسيم مآلا ممكناً لها.

وعلى رغم أن الحديث عن التقسيم الذي راج كثيراً في السنوات الأخيرة لم يكن جديداً إذ تم طرحه ومناقشته بغير مناسبة في الأوساط الثقافية والسياسية السورية، إلا أنه بالعموم يبقى مستبعداً لعدم وجود مقومات صارمة تدفع به. فالرئيس حافظ الأسد لم يبق خلال فترة حكمه على أي بنى مجتمعية سابقة للدولة الحديثة يمكنها أن تحتمل مشاريع تقسيمية. فقد حطم البنى الطائفية والدينية والعشائرية والقبلية والقومية، من دون أن يبني بدلاً عنها دولة حديثة تقوم على قواعد وروابط المواطنة، ومن دون أن تكون هذه الدولة هدفاً لعملية الهدم تلك، بل كان الهدف مقتصراً على استئثاره بجميع الزعامات وجميع السلطات. فمنذ سنوات طويلة لم يعد في البلاد زعامات طائفية أو دينية أو قومية أو عشائرية أو قبلية. وكما لا يوجد عند العلويين «مجلس» قيادي يمكنه اتخاذ قرار الانفصال، كذلك لا يوجد عند السنّة السوريين ولا عند أي مكوّن سوري آخر مثل ذلك، وإن وُجدت مقامات لأي من المكونات السورية فهي مجرد هياكل شكلانية لا تسيطر على أي من مجاميع المكوِّن الذي تتبوأ رأس هرمه الافتراضي.

وعلى رغم ذلك فالصحف العربية ما زالت تحتوي لحد الآن على مقالات كثيرة وتحليلات سياسية وديموغرافية عدة تجعل من نشوء دولة علوية غرب سورية كخيار لبشار الأسد أمراً ناجز الإعداد لا ينقصه سوى التصريح عنه. ففضلاً عن أن مثل هذه المقولات تقلب صورة الصراع السوري (أصبح الصراع مجرد جزء يسير من عموم الصراع الدائر في سورية) من صراع بين سلطة مستبدة قمعية وشرائح شعبية تطمح لاستعادة حقوق السوريين وحرياتهم التي انتهكتها هذه السلطة، ليصبح فقط صراعاً بين العلويين كسلطة والسنّة كشعب، وأنه بالقضاء على السلطة العلوية وإحلال سلطة سنّية بدلاً عنها تستوي الأمور وتحل العدالة، وكأن الضـــيم والظلم منتوج علوي حصراً.

فضلاً عن هذا فإن قيام دولة علوية كمشروع لبشار الأسد أمر غير ممكن وغير واقعي إطلاقاً لافتقاده لأي مقومات، مهما كانت صغيرة، تجعله قابلا للتحقق في المدى المنظور. إذ طالما بمقدور بشار الأسد أن يكون رئيساً «آمنا» على دمشق بدعم متين من «حزب الله» ومن روسيا وإيران، فلن يفكر بأن يتحول إلى مجرد رئيس للعلويين أو للقرداحة فقط، بخاصة وأنه لم يعش في تلك المناطق وليست معقلاً له.

من ناحية ثانية، وإذا ما عرفنا أن القسم الأكبر ممن يصطف خلف بشار الأسد من العلويين يتخذون هذا الموقف تصوراً منهم أنه قادر على حمايتهم من مخاطر محدقة بهم، بغض النظر عن صحة وجود هذه المخاطر أو صحة مقدرة الأسد أو رغبته بحمايتهم، علينا أن نستنتج أن هؤلاء لن يرحبوا به إن جاء إليهم مهزوماً طالباً حمايتهم، بخاصة وأن غالبية المؤيدين له من العلويين ينظر له كرمز وليس كقائد. فهم لمن لا يعرفهم مِن أكثر الناس تهكماً على سذاجته و»هبله»، وفق توصيفهم، بل ضاقوا ذرعاً بقلة حيلته التي تجعله غير قادر على قيادة البلاد، وأن مَن حوله، بحسب تصورهم، يتصرفون على هواهم من دون أن يستطيع كبحهم أو توجيههم.

تغيرات ديموغرافية كبيرة حصلت في سورية خلال السنوات الأربع الماضية. ففضلاً عن هجرة نصف المواطنين السنّة تقريباً إلى خارج البلاد فإن عدداً منهم نزح إلى مناطق العلويين في الساحل السوري، ولم يعد العلويون غالبية سكانية في الساحل، بل ربما فاق عدد السنّة عددهم هناك، وبالتالي فالتصورات عن قدرة العلويين، مقودين من بشار الأسد، على إقامة دولة لهم، أو له، في الساحل، بناء على كثرتهم هناك لم تعد صالحة (وهنا لا بد من التنويه بأن نزوح السوريين من مناطق الاشتباكات إلى مناطق سيطرة النطام ليس تفضيلاً له بل لأن مناطقه أقل خطراً على حياتهم من مناطق تواجد المجموعات المسلحة حيث براميل النظام المتفجرة وقذائف مدفعيته، خلافاً لما ادعاه الأسد في خطابه الأخير).

وبالعموم فتقسيم أي بلد يتطلب تنظيماً مجتمعياً ما، ووجود زعامات لمكوناته المجتمعية أو السياسية، وهذا ليس متوافراً في سورية حيث الفوضى تقارب حدودها المطلقة. ولا بد لنا حتى نتحدث عن إمكان التقسيم أن نشهد إرهاصات له تتجلى باقتتال داخل كل مكوّن على حدة حتى تبرز بعض الزعامات القادرة على فرض سلطتها على عموم أفراد المكوّن.