IMLebanon

رسالة إلى غبطة البطريرك: الحياد لن يكتمل ويتحقق من دون الاستراتيجية الدفاعية

 

كتب لي الجنرال الدكتور دريد زهر الدين، بتاريخ 23 تموز 2020، قائلا: «سرقوا فكرة الحياد، وعم يلعبوا فيها دوليا. لازم تاخذ شهادة اختراع». ضحكت، فسيادة الجنرال مؤرخ وكاتب، ويدرك نظام حقوق المؤلف. بالطبع لست أول من طرح فكرة حياد لبنان. فعميد الكتلة الوطنيّة ريمون إده، رحمه الله، والذي وصفته دائما، بضمير الوطن، رحل وهو يناشدنا اعتماد حياد لبنان. في حينه، وقف ضمير لبنان، يحذرنا من اتفاقية القاهرة، ومن المغامرات التي أدخلنا بها وطننا منذ ذلك الحين. أنا استمعت إليه. عاش في ضميري ووجداني، وتعمقت فكرته في عقلي يوما بعد يوم، من خلال تجربتي اليومية على الساحتين، الوطنية والدوليّة. وكانت أولى صرخاتي من أجل حياد لبنان، عام 1982، بعد اجتياح إسرائيل للبنان. عندها كتبت مقالة أدعو فيها لحياد لبنان، صدرت باسم مستعار في مجلة المجلة السعودية. بل صدرت هذه المقالة، مع مقدمة من المجلة، تؤيد هذه الفكرة، ففهمت أن المملكة تؤيدها. كما أيدتها تشيكوسلوفاكيّا، التي أنهكتها وأنا أطالبها بمساعدة لبنان، لوقف الموت والدمار في بلدنا، وحماية ثروته من الآثار، في صور والجنوب، والتي كان يسرقها موشي دايان، وزير الدفاع في إسرائيل. فالخارجية التشيكوسلوفاكية قالت لي صراحة، أنها تؤيد حياد لبنان. اعتبرت هذا الموقف تحولا كبيرا وتاريخيا. فتشيكوسلوفاكيا الاشتراكية كانت تعكس أيضا تأييدا سوفياتيا لهذا الأمر. تذكرت موضوع حياد النمسا التي حصلت عليه باتفاق سوفياتي أميركي. وأقنعت سفيرنا في براغ في حينه، السفير جان كوكيكيان، بأن نكتب إلى وزير الخارجية فؤاد بطرس، نقترح النظر بالطلب إلى الحكومة التشيكوسلوفاكية، التوسط بين لبنان ومنظمة التحرير، على أمل إنهاء المحنة التي يعاني منها لبنان. فوجئنا برد معاليه القاسي، «من طلب منكم أن تقوموا بذلك؟» عاتبني سعادة السفير الذي أزعجته الرسالة، فقلت له «ألا تشعر براحة ضمير! فأنت قمت بما يفترضه دورك». علمت في حينه، كم أن فؤاد بطرس يسير بركاب أميركا.

 

لم أتوقف منذ ذلك الحين، عن الدعوة إلى حياد لبنان. لكنني كنت حريصا دائما، على أن لا يفهم من دعوتي أنني أتنازل قيد أنملة، عن حقوقنا الوطنيّة في وجه إسرائيل. ولا أن يكون هذا الموقف، سببا للصمت عن دعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين، ولكل الشعوب المضطهدة. رفعت صوتي في كافة المحافل الدوليّة. وثمة الكثير من هذه المواقف، في مقالاتي وكتبي، التي نشرتها دوريا، منذ بداية الثمانينات. ووقفت أدافع بكل قوة عن حقنا المشروع، بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأراضينا الوطنية. سجلت العديد من الانتصارات الدبلوماسية التي حمت ظهر المقاومة. ولكن، وعندما خرجت المقاومة في لبنان، عن دورها المقاوم وفقا للقانون الدولي، حذرتها صراحة، مؤكدا للمعنيين أنفسهم، أن المناداة بالمقاومة خارج قواعد القانون الدولي، يجعلها فكرة سياسية لا قيمة لها. بل يقتل هذا الحق، سواء لمقاومتنا، أو لمقاومة أي شعب آخر في العالم. ورفعت الصوت أكثر، ومن دون أي وجل أو تردد، بعد أن رأيت ما يحصل في البلدان العربية المجاورة. كنت أدرك تماما ما يتم التخطيط له لتدمير وحدتنا القومية، وتمزيق أوطاننا طائفيا ومذهبيا، فكتبت عام 2012، تقريرا مفصلا أشرح فيه ما يخطط لنا. وأرسلت التقرير إلى البطريركية المارونيّة وإلى وزارة الخارجيّة. وما زلت أذكر ما نشرته الصحف في أسرار الآلهة عن هذا التقرير، إذ أكدت لي أن التقرير وصل إلى غبطة البطريرك، وإلى الرئيس نبيه بري. في حينه، رفع الرئيس بري لفترة قصيرة، شعار أ.س. (إيران السعودية) بدلا من شعار س. س. (سوريا السعودية).

 

كتبت مقالات عديدة في الصحافة، عن حياد لبنان. وألقيت المحاضرات لهذا الغرض. وفاتحت بها، خلال قيامي بمهمتي الدبلوماسية في كل من الأرجنتين والمكسيك، كل المسؤولين في هذين البلدين. ونشرت المجلة الدبلوماسية في بيروت دراستي بهذا الصدد. وتلقيت اتصالا من المكتب السياسي لحزب الكتائب، للمشاركة في المؤتمر الذي كانوا يعدون له حول الحياد، فلم أتمكن لأنني كنت في كندا في حينه. قمت بتعميم دراستي على الأحزاب، وسلمتها إلى أمين السر في الحزب التقدمي الاشتراكي. وأودعت نسخة منها إلى القوات اللبنانية، عبر نائب عاليه أنيس نصّار. وأودعت نسخة منها رئيس تيار المستقبل، عبر السيد أحمد الحريري. وبالطبع أودعت البطريركية نسخة منها، كما النسخ الأخرى التي كنت كتبتها ونشرتها عبر السنوات، دفاعا عن لبنان. البطريركية المارونية كانت دائما، مرتجى السياديين في لبنان.

 

لم أتوقع أن يؤيد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي موقفي، لكنني فوجئت أنه أعلن رفضه للفكرة. لم أهتم. فالزمن الذي كانت المختارة، تقرر مصير لبنان، انتهى. انتهى منذ أن دفنوا كمال جنبلاط. وريثه الوليد كان أسير الحالة التي سادت في بلدنا، ففقد ثقافة صنع القرار، وصار صوتا، يؤيد أو يعارض، وفقا للمناخ السياسي السائد. ولذلك لم أفاجأ أنه رحب بإعلان البطريرك وأعلن تأييده حياد لبنان.

 

أنا لم أزحف إلى بكركي يوم أعلن غبطة البطريرك أخيرا، دعم حياد لبنان، رغم أنني سررت من أعماقي، بهذا الإعلان بل قفزت سعيدا، من مقعدي عندما سمعت كلامه. قال لي أحد القريبين جدا، من بكركي، أنه يخشى أن يتراجع غبطته عن موقفه ويعتذر لفخامة الرئيس. وذكّرني بموقف البطريرك عندما رمى الحرم الكنسي على الجنرال عون، ثم ذهب إليه بعد ثلاثة أيام معتذرا. أجبته لن يتراجع فهذا قرار دولي.

 

أنا لم أذهب إلى بكركي لأنني قلت كلمتي منذ زمن بعيد، ولا أطمح لأي شيء لنفسي. يكفي أن أرحل مثل ضمير لبنان العميد ريمون إده، مرتاح الضمير. يكفي أن يقول أولادي وأحفادي، من بعدي، والدنا وجدنا، حمل طوال حياته، راية الدفاع عن لبنان.

 

ومن هذا المنطلق، أريد ان أبعث برسالة أخرى إلى غبطة البطريرك:

 

سيدنا، ألا فتتكرم وتقرأ إذا سمحت، ورقتي المتضمنة مقترحاتي لخطة وطنيّة لحل الأزمة اللبنانية. هي بين أيديكم مثل كل ورقة كتبتها للدفاع عن لبنان. نعم، الحياد سبيلنا الوحيد لاستعادة سلام لبنان وازدهاره، لكن لن يمكننا استعادة سلامنا الداخلي، إذا لم نستعد وحدتنا الوطنيّة. والأخوة الشيعة هم جزء أساسي من هذا الوطن. وغالبيتهم اختارت عبر حزب الله، وحركة أمل، طريق المقاومة وعارضت الحياد. وعليه، يجب استكمال مطالبتكم بحياد لبنان، برفع شعار «الاستراتيجية الدفاعيّة». يجب أن نطمئن أخوتنا في هذه الطائفة الكريمة، أننا لا نريد أن نقتل جذوة المقاومة، بل إعادتها إلينا. لا نريد أن نخسر قوة وسلاح وقدرات حزب الله، أو غيره من الأحزاب، التي تعتبر أنها مقاومة، بل أن نوظفها في خدمة الشرعية اللبنانية ووفقا لما يفرضه القانون الدولي. أناشدكم دعوة فخامة رئيس الجمهورية لتنظيم طاولة حوار وطني جديدة، على غرار طاولة الحوار التي أقامها فخامة الرئيس ميشال سليمان عام 2012. يجب أن يتحول حياد لبنان إلى إعلان وطني، قبل أن يثار على الطاولات الدوليّة. ويجب طمأنة كل الأحزاب والمجموعات، أن لبنان لن يكون ضعيفا أمام إسرائيل. فإسرائيل تبقى عدوة لنا، طالما لم نوقع معها اتفاق سلام. ويجب أن نؤكد على اتفاقية الهدنة كركيزة أساسيّة في علاقاتنا مع إسرائيل. وأن نؤكد التزامنا قرارات الأمم المتحدة لحل القضية الفلسطينية، وكذلك التزامنا القرارات العربية، بشأن السلام مع إسرائيل، ولا سيما إعلان بيروت لعام 2002. لقد قبلنا غصبا، أن نتحول وحدنا إلى ساحة لحروب العرب الدموية، في وجه إسرائيل، وعلينا أن نختار الآن طوعا، أن لا نذهب إلى السلام مع إسرائيل وحدنا، بل على العرب أن يسبقوننا أولا.

 

أعلم أن ثمّة من يقول، لكن حزب الله لن يقبل؛ لأنه يحمل أيديولوجيا دينية، تقوم على طاعة أوامر مستمدة من خارج لبنان. نعم أفهم هذا الكلام. لكنني أعتقد رغم ذلك، أن علينا أن نحاول، فإذا نجحنا كان لنا سلما، ما نريد. وإذا لم ننجح، فإننا سنذهب إلى آخر الدنيا، للبحث عن حياد وطننا وسلامه.