IMLebanon

أسرار الطائف كما رواها البطريرك صفير(2)

 

الإبراهيمي والحسيني والحريري

 

مع استمرار تداعيات حرب التحرير بدأ البحث عن مخرج. كان البطريرك صفير محور الإتصالات من أجل وضع حدّ للحرب والتوصّل إلى اتفاق على تعديل الدستور. في هذه الأجواء بدأ الموفد العربي الأخضر الإبراهيمي جولاته المكوكية وكان يتقاطع عند البطريرك صفير اتجاهان: اتجاه يمثّله الرئيس السابق لمجلس النواب حسين الحسيني ويحمل وجهة نظر النظام السوري واتجاه يمثّله رفيق الحريري موفد المملكة العربية السعودية والملك فهد وكان يمثّله سمير فرنجية الذي تولى نقل الإقتراحات إلى بكركي. أفكار كثيرة من التعديلات تم التداول بها وكان البطريرك صفير يسجّلها ويتابعها قبل أن يحزم حقائبه ويتوجه إلى الفاتيكان للقاء البابا يوحنا بولس الثاني.

 

في أول أيار 1989، لاحظ البطريرك صفير أن القصف تكاثر في مناسبة مجيء الأخضر الإبراهيمي الأمين المساعد لجامعة الدول العربية بوصفه ممثلاً للأمين العام الشاذلي القليبي الى لبنان، يرافقه أحمد الجاسم سفير الكويت في دمشق، وممثل رئيس اللجنة العربية السداسية الشيخ صباح الأحمد الصباح، وقد أتيا من دمشق. كان البطريرك صفير لا يزال يتلقى إتصالات التعزية بوفاة شقيقته ماتيلدا التي توفيت في 29 نيسان ولم يشارك في جنازتها، معتبراً أن الناس سواسية “ولأننا أردنا ألّا نعرّض أحداً للأسباب الأمنية ولصعوبة وسائل النقل ولندرة البنزين…”.

 

في الثالث من أيار، ترأس صفير الإجتماع الشهري للمطارنة الموارنة، ثم استقبل الإبراهيمي والجاسم اللذين كانا زارا رئيس الحكومة في المناطق الخاضعة للإحتلال السوري، الدكتور سليم الحص، والعماد ميشال عون، رئيس الحكومة العسكرية في بعبدا، وقد أبلغا صفير أن كلاهما وافقا على رفع الحصارات ووقف إطلاق النار. وقد رحب صفير بذلك وقال لهما إن “كل ما نطلبه هو أن يعود لبنان الى حالة طبيعية بعد أن يخرج منه الإسرائيليون والسوريون والفلسطينيون والإيرانيون”. طلب الموفدان الإختلاء بالبطريرك، فانتقلوا الى مكتبه وفاتحاه “بخشيتهما من إنتكاسة إذا راحت وسائل الإعلام تدّعي التغلّب على الفئة الغربية بتشريعها مطار حالات لقاء رفع الحصار عن مرفأي الجية وخلده”، وتمنيا عدم ذكر مطار حالات وطلبا منه التدخل لدى العماد عون.

 

لمعرفة ما دار في اللقاء بين صفير والموفدَين العربيين، أرسل عون مدير التشريفات في القصر الجمهوري مارون حيمري الى بكركي. أخبره صفير بما طلبه الموفدان، فوجد حيمري صعوبة في نقله الى عون “لكونه لا يقبل ملاحظة”. ثم زاره أيضاً الوزير اللواء عصام أبو جمرة للغاية نفسها. وفي 9 أيار كان يحدد موقفه في مقابلة مع وكالة “رويترز”: “نحن مع العماد عون في تحرير لبنان، إنما الوسائل تختلف. هو عسكري يستعمل المدفع ونحن رجال دين نفضل الحوار”. واعتبر أن سوريا مسؤولة عن القصف لأنها تسيطر على 70 في المئة من الأراضي اللبنانية وبإمكانها أن تضع حداً للقصف الذي ينطلق من الأرض التي تسيطر عليها. بعد يوم واحد فقط كانت راجمة صواريخ سورية تقصف بكركي ومحيطها، وكان البطريرك يسجل أن هذا القصف ردّ على الموقف الذي أعلنه.

 

بين محور الحسيني ومحور الحريري

 

إعتباراً من هذا التاريخ سيبدأ البطريرك صفير يستقطب التحركات السياسية بحثاً عن مخرج للأزمة. وتحولت بكركي الى محطة مرور إجبارية واختيارية للباحثين عن هذا الحل. وسيكون من السهل تحديد أكثر من جهة كانت تتولى الإتصال به، وكان هناك تركيز على محورين: محور يمثله الرئيس حسين الحسيني رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت، ومحور يمثله رفيق الحريري الذي كان في تلك المرحلة موفداً شخصياً للملك السعودي فهد. ومن هذين المحورين كانت بداية الطريق نحو توسيع آفاق الحل العربي في ظل الرعاية الدولية، وكانت بداية البحث في ما سيصبح لاحقاً إتفاق الطائف.

 

في 15 أيار إستقبل صفير النائب الياس الهراوي. جاء الى بكركي حاملاً كتاباً خطياً من الرئيس حسين الحسيني الذي كان طلب لقاءه في بيته في شمسطار ليكلّفه نقله إليه، وقد جاء فيه “أنه يرغب بلقائنا بعد أن التقى مراجع عالية ولا بأس أن يكون في الديمان أو حتى في روما. وأما لقاء الديمان، فكان يوحي به إلينا من عدة أشهر، وقد أفهمه الهراوي أن الحالة السياسية لا تسمح الآن بهذا اللقاء العلني. فتمنى أن نبعث إليه بموفد”.

 

المطران أبو جودة موفد البطريرك إلى المهمات الصعبة

 

في ظل تلك التطورات السياسية والعسكرية، كان صفير يثبت أنه إنما يلعب دوراً وطنياً. بعد اغتيال المفتي حسن خالد في 16 أيار 1989 فتح أبواب بكركي لتقبّل التعازي بالتزامن مع التشييع.

 

يوم الثلثاء 23 أيار إستقبل صفير في بكركي سمير فرنجية وسيمون كرم. لاحظ غبطته أن فرنجية جاء بعد غياب طويل، وأنه كان قد زار باريس ودمشق وإهدن وبيروت الغربية، حيث يقضي معظم أوقاته. وقد لخص صفير مضمون ما تداولوا به في نقاط محددة كما يلي:

 

1 – السوريون مختلفون على صعيد القيادة: الخدام والشهابي والشرع والكسم ليسوا من رأي واحد. الكسم والشهابي فرحا عندما تم رفض ترشيح الأستاذ مخايل الضاهر لرئاسة الجمهورية.

 

2 – يبدو أن الأسد والشهابي والشرع، خلافاً للخدام، أشادوا بدور بكركي، وأشاروا على الصحافة السورية ألّا تعتِّم على هذا الدور.

 

3 – كان السوريون يراهنون سابقاً على العماد عون رئيساً للجمهورية يوم كان النائب ألبير منصور وفايز القزي يترددان على دمشق لتسهيل ترشيحه ومساندته. غير أن مشاعر السوريين تبدّلت يوم بدأ عون يهاجم الرئيس الأسد شخصياً. وهذا ما جرّأ السوريين عينهم على مهاجمته وإن بطريقة غير علنية.

 

4 – الجوّ السوري تبدّل بالنسبة الى لبنان، وقد رأى القياديون أن الأفضل لهم أن يسهّلوا أمر إعادة لبنان الى حالة طبيعية، والورقة التي أعدتها اللجنة السداسية (العربية) بموافقة السعودية تقوم على:

 

* إرجاء قضية إلغاء الطائفية السياسية الى ما بعد.

 

* يُترك أمر حضور رئيس الجمهورية وترؤسه مجلس الوزراء له، وتعيين مدة رئاسة المجلس (النيابي) بسنتين.

 

* رئيس الجمهورية يختار رئيس مجلس الوزراء ويشترك معه في اختيار الوزراء.

 

* برمجة الإنسحاب السوري على مدة سنتين وإقامة معاهدة أمنية، على أن يكون لبنان سيداً مستقلاً.

 

* إعتماد الثلثين لدى التصويت على القضايا الهامة المالية والسياسية في مجلس النواب.

 

لم تكن تلك أفكار سمير فرنجية الشخصية. كان يعرض أفكاراً تعبِّر عن الموقف والموقع الذي يمثله رفيق الحريري، كما سيظهر لاحقاً من خلال حركته السياسية برفقة الحريري.

 

ماذا يريد الحسيني؟

 

لم يكن مثل هذا الأمر خافياً على البطريرك الذي كان بدأ بدوره يقيس الأمور من زوايا مختلفة، ويحاول أن يستطلع المحاور التي تنفتح عليه. ومن هذه الخلفية، أوفد المطران خليل أبي نادر رئيس أساقفة بيروت للقاء الرئيس الحسيني ليعرف منه شخصياً أبعاد ما يريده من اللقاء به. إستمر لقاء أبي نادر ـ الحسيني ثلاث ساعات، من الخامسة حتى الثامنة مساء. نقل المطران الى البطريرك أن الحسيني كان في سوريا والتقى الرئيس حافظ الأسد 8 ساعات، وأكد له الأسد أنه لا يريد شيئاً من لبنان. علّق صفير أن هذا الكلام طالما ردّده الرئيس السوري وهو يبقى قولاً لا فعلاً. قال المطران أيضاً نقلاً عن الحسيني إن الحديث مع الأسد تطرق الى موضوع إنتخابات رئاسة الجمهورية “وأن الأسماء التي قدمناها لا توافق عليها سوريا وهي خمسة لأنها لا تريد العماد عون ولا ريمون إده، وفؤاد نفاع تقول عنه إنه مريض، والإثنان الباقيان (بطرس حرب وبيار حلو) لا يمكنهما القيام بالمسؤولية. ويقول الحسيني إن الأسد سأله لماذا لا يختار بديلاً عن هؤلاء مثلاً الياس الهراوي، ميشال الخوري، رينيه معوض وسواهم. فأجبناه ليترك للنواب حرية الإختيار ونحن لن نتدخل بعد الآن، وذلك جرّ علينا نقمة المسترئسين من الموارنة وما أكثرهم. وقد قبلنا بالقيام بالمبادرة دفعاً للتهمة التي كانت شاعت ومؤداها أن الموارنة يريدون التقسيم لذلك يعرقلون الإنتخابات، فبرهنّا أن سوريا هي التي لا تريد أن تجري إنتخابات رئاسية في لبنان، ويبدو أن الأسد قال للحسيني: لقد زار البطريرك بلداناً كثيرة ولم يزر سوريا، وعند الإحتفال بتنصيبه أرسلنا وزيراً وموظفاً كبيراً، فقال له المطران أبي نادر: والبطريرك أرسل للشكر خمسة مطارنة زاروا الرئيس الأسد”.

 

على المحور الآخر، عاد سمير فرنجية وسيمون كرم الى بكركي في 30 أيار. نقل فرنجية الى البطريرك تحيات الرئيس الحص ووضعه في الأجواء التي رآها في دمشق، وبعد إتصاله برفيق الحريري الذي يسعى مع السلطات السعودية الى حل القضية اللبنانية، وينتظر من اللجنة الثلاثية التي شُكلت في قمة الدار البيضاء أن تتوصل الى وضع آلية حل. وأشار فرنجية الى الإصلاحات التي ربما تقول بعدم ترؤس رئيس الجمهورية مجلس الوزراء.

 

بهذا التصوّر العام والبسيط، إستعد البطريرك صفير للإنتقال الى روما. ذهب الى مطار بون، وبعد إنتظار نحو ساعة ونصف بسبب تأخر الطائرة التي كانت ستنقله الى ميونيخ حيث يستقل سواها الى روما، إنتقل بالسيارة الى مطار فرنكفورت على مسافة 160 كلم. وصل عند الثامنة والنصف بعد ساعتين، وبعد إجراء المعاملات اللازمة توجه الى الطائرة في الوقت المناسب “ومررنا على حواجز التفتيش كسائر الناس. وكانت الرحلة مريحة، وكانت تظهر المدن تحتنا مضاءة بالكهرباء وسط واحات من الظلام. وكان يرافقنا الخوري (ميشال) عويط”.

 

يتبع: صفير في الفاتيكان والنواب في الطائف