IMLebanon

البطريرك في روما والنوّاب في الطائف

 

أسرار الطائف كما رواها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير

 

 

في مقرّ إقامته في روما تحوّل البطريرك صفير إلى الحاضر الأكبر في اجتماعات النوّاب في الطائف. كأنّه انتقل إلى هناك لكي يكون مرتاحاً في متابعة المباحثات ومن دون تأثير الوضع الداخلي عليه في مقره في بكركي. في روما كان يمكنه أن يلتقي البابا يوحنا بولس الثاني ويبحث معه الوضع في لبنان والمخارج المطروحة وأن يتلقّى الإتصالات من النوّاب في الطائف ومن موفدين من اللجنة العربية الثلاثية ومن الوزير الأمير سعود الفيصل ومتابعة ما يحصل من اتصالات مع النظام السوري من أجل التأكيد على الإنسحاب من لبنان بالتزامن مع إقرار الإصلاحات الدستورية. كان النوّاب المسيحيون يريدون منه موقفاً يغطّي ما يتوصّلون إليه ويوافقون عليه ولكنّه لم يفعل.

يوم السبت 30 أيلول عندما اكتمل وصول النواب اللبنانيين الى الطائف، كان البطريرك صفير أصبح في روما التي وصلها قرابة منتصف الليل، وانتقل من المطار بواسطة سيارة المطران إميل عيد الى دير الآباء المريميين حيث انصرف على الفور لإعداد تقرير عن زيارته الى ألمانيا ليقدمه الى قداسة البابا. إعتباراً من هذه الساعة سيواكب البطريرك يومياً من روما ما كان يحصل في الطائف.

 

يوم الأحد أول تشرين الأول 1989، تواصل البطريرك صفير مع المطران رولان أبو جودة في بكركي وعلم منه أن النواب المسيحيين إلتقوا في الصرح البطريركي قبل أن ينتقلوا الى قصر بعبدا حيث اجتمعوا مع العماد ميشال عون، وأنهم كانوا يميلون الى عدم الذهاب الى السعودية لكنهم عدَّلوا موقفهم وقرروا إتخاذ موقف موحّد. ذلك اللقاء مع العماد عون بقي غامضاً في نتائجه بين أن يكون عون وافق على ذهابهم وبين أن يكون حذّرهم من الذهاب ودعاهم الى عدم تقديم تنازلات بعدما كان جاهر بعدم شرعيتهم.

 

يوم الأربعاء 4 تشرين الأول كان لقاء البطريرك صفير مع قداسة البابا. في ساحة مار بطرس، قبيل المباشرة بالصلاة، جاء الكاردينال سودانو وأعلم البطريرك أن قداسة البابا يدعوه الى تناول الطعام إلى مائدته. لم تكن هذه الدعوة قد وُجهت الى البطريرك الذي كان تبلّغ موعد اللقاء فقط، ويبدو أن البابا أرادها. بعد فترة إنتظار في مكتب المونسنيور منجد الهاشم مع الخوري ميشال عويط، إنتقل غبطته الى جناح قداسته، بينما ذهب الهاشم وعويط للغداء في منزل الأول. حمل البطريرك الى البابا وجه طاولة طعام عليه رسم أرزات خضراء تمثل أرز لبنان باللون الأخضر وجبال لبنان صنع راهبات دير الصليب. في الواحدة والنصف وصل قداسته وعلى المائدة دار الحديث طوال الوقت عن لبنان بالتفصيل والتدقيق، وقد اختصره البطريرك على النحو التالي:

 

1 -مسيحيو لبنان شرط لبقاء مسيحيي المنطقة. إذا زال الأولون زال الآخرون. هذا ما قاله قداسته نقلاً عن المطران روبين الذي أصبح كاردينالاً وهو الآن مريض وكان قد درس في لبنان وارتسم كاهناً معه…

 

2 -الإسرائيليون يدّعون المحافظة على المسيحيين، ولكن هذا غير صحيح، فهم لم يعطوا للجيش اللبناني فرصة أسبوعين ليحل محلهم في الشوف عندما انسحبوا بسرعة، وكانت المجزرة وتهجير المسيحيين على يد الدروز.

 

3 -السوريون يريدون أن يضعوا يدهم على لبنان تحقيقاً للوحدة السورية أو العربية…

 

4 -يبدو أن سوريا وإسرائيل متعاديتان ظاهرياً متفقتان باطناً على إقتسام لبنان.

 

5 -العماد عون رجل يدافع عن وطنه، والقول إن إزاحته عن منصبه يحلّ كل شيء هو قول غير صحيح ولا يُترجم الواقع.

 

6 -“حزب الله” جاء الى لبنان بتشجيع من السوريين نكاية بالذين يتفاوضون مع العراق التي تعطي سلاحاً للعماد عون.

 

7 – الفلسطينيون منقسمون، منهم من هم مع عرفات ومنهم من هم مع سوريا ويقتتلون.

 

8 – السوريون جاءوا متنكرين بأثواب فلسطينية أولاً واستقبلهم المسيحيون على أنهم جاءوا بعد أن كشفوا عن وجوههم، لحماية المسيحيين من العدوان الفلسطيني، وقاومهم المسلمون، ثم انقلبت الآية فقاومهم المسيحيون ووالاهم المسلمون.

 

9 – هل المسلمون يتخلّون عن سوريا؟ الإعتقاد السائد أنهم يتخلّون، إذا حصلوا على ما يطلبون من مشاركة أوسع في السلطة، لأن السوريين يكبتونهم فلا يجرؤون على إتخاذ موقف صريح.

 

10 – هل الإصلاحات تهدِّد الوجود المسيحي؟ المطلوب أن تكون متوازنة بحيث ينتفي معها خوف المسيحيين وغبن المسلمين.

 

11 – الميثاق الوطني غير المكتوب قام على لا للشرق ولا للغرب، أي لا المسيحيون يطلبون حماية الغرب الممثل بفرنسا ولا المسلمون يطلبون الحماية من الشرق أو الإلتحاق بسوريا. فرنسا ابتعدت، سوريا أصبحت داخل لبنان، فاختلّ التوازن وزالت المعادلة، لذلك يجب أن يكون هناك ترابط بين إصلاحات وانسحابات سورية…

 

إستنتج البطريرك أن “أغلب الظن سفير سوريا قال لقداسته: ليذهب عون، ويتسوّى كل شيء”، أجاب قداسته: “عون يدافع عن بلاده ولن يذهب”.

 

بهذه الصورة كان البطريرك صفير يبحث عن مخرج. كان همه التلازم بين الإصلاحات والإنسحابات. وقد ظهر من خلال الإفاضة في تدوين حديثه مع قداسة البابا إهتمام قداسته بمتابعة تفاصيل الوضع في لبنان في هذه المرحلة المصيرية، وكان البطريرك صفير يريد أن يكون ما يقوم به من ضمن سلة تفاهمات شاملة مع الكرسي الرسولي الذي كان يهمه أيضاً أن يخرج لبنان من أزمته.

 

الهواتف بين روما والطائف

 

الإشارة الأولى من البطريرك صفير حول متابعة ما كان يحصل في الطائف سجّلها يوم السبت 7 تشرين الأول من خلال الإتصال الذي تلقاه من النائب جورج سعادة رئيس حزب الكتائب. قال له سعادة: “إن الضغوط على النواب المسيحيين شديدة ليقبلوا بصرف النظر عن المطالبة ببرمجة الإنسحاب السوري، ولكنهم ثابتون على موقفهم هم والنواب المسلمون الساكنون في المناطق الشرقية، عثمان الدنا ورفيق شاهين وحميد دكروب وأمثالهم”. أضاف سعادة: “أما المشاركة في الحكم، فقد أعدّوا مذكرة بشأنها يقولون فيها إن المشاركة يجب أن تكون فعلية بحيث لا ينتقل الغبن من المسلمين الى المسيحيين”.

 

أخبره صفير بمضمون الإتصال الذي جرى بينه وبين العربي بلخير مدير الرئاسة الجزائرية الذي كان نقل إليه في 4 تشرين الأول بناء على طلب الرئيس الشاذلي بن جديد أن النواب الموارنة يصرّون على الإنسحابات، وأن بن جديد طلب منه أن يبلّغ البطريرك أنه حصل على ضمانات شفهية من الرئيس الأسد أنه فور انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة يبدأ التفاهم على الإنسحاب على مراحل، وقد طلب من صفير إبلاغ العماد عون بهذا الأمر. بعد ذلك طلب صفير من سعادة أنه “يجب على الأقل أن يتعهد رؤساء دول اللجنة الثلاثية خطياً بأنها تضمن خروج الجيش السوري”.

 

7 تشرين الأول أيضاً إتصل السفير السعودي في روما طالباً موعداً من البطريرك صفير. في اليوم التالي إستقبله صفير. كان يحمل رسالة من وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل. قرأها صفير وأعدّ في اليوم التالي رداً عليها من 9 نقاط تناولت الوضع اللبناني وحرصه على الإستقلال والصداقة مع سوريا. في اليوم نفسه كان سفير الجزائر في روما ينقل إليه أن الرئيس الشاذلي بن جديد والملك الحسن الثاني والملك فهد أخذوا ضمانات من الرئيس حافظ الأسد بالإنسحاب من لبنان. ردّ صفير بأنه يجب ضمان الإنسحابات.

 

في 10 تشرين الأول إتصل به النائب بطرس حرب من الطائف ونقل إليه أنه صار الإتفاق على الإصلاحات السياسية بنسبة 70 في المئة، وأن الخلاف مستمر حول بعض صلاحيات رئيس الجمهورية وحول إنسحاب الجيش السوري، وأنه قد يتم تحديد مهلة زمنية يكون في نهايتها قد تم إنسحاب السوريين نهائياً، وربما كانت المدة سنتين. إتصل أيضاً النائب كاظم الخليل الذي طلب موافقته وموافقة عون على القسم المتعلق بالإصلاحات لينصبّ الإهتمام على الإنسحابات. ردّ صفير أن السيادة لا بد منها وهي لا تأتلف مع وجود جيوش غير لبنانية على أرض لبنان. كما اتصل به أيضاً جورج سعادة وريمون إده.

 

كانت إتصالات النواب والوسطاء بالبطريرك صفير يومية. كأنه كان المطلوب منه أن يتنازل في موضوع السيادة ولكنه بقي مصراً على الضمانات وعلى تحديد المهلة الزمنية، وكان سمير فرنجية يتولى الإتصال ونقل إقتراحات رفيق الحريري ونصائحه. كان التركيز يتمّ على موضوع الإنسحابات. هل تبدأ بعد الإتفاق أم بعد عامين؟

 

لم يتنازل البطريرك عن موقفه ولم يقبل بإعطاء أي توجيه حول هذا الأمر للنواب، خصوصاً بعدما أبلغه جورج سعادة في 19 تشرين الأول أن الأمير سعود الفيصل إلتقى الرئيس السوري حافظ الأسد ولم يُسفر الإجتماع عن نتيجة. ولكن سعادة عاد واتصل في اليوم التالي ليبلغه أن الفيصل عاد من سوريا بتعديلات طفيفة حول الإنسحابات وبقاء الجيش السوري في نقاط محددة على القمم في ضهر البيدر وغيرها.

 

لم يجرؤ النواب المسيحيون على إعطاء أي موافقة نهائية وطلبوا تغطية البطريرك صفير، ولكن البطريرك رفض إعلان أي موقف. قال للنواب جورج سعادة وحبيب كيروز والياس الخازن ونصري المعلوف ورينيه معوض وبطرس حرب: “وازنوا وقابلوا وانظروا أية كفة ترجح بين الإيجابيات والسلبيات وخذوا في ضوء ذلك الموقف المطلوب”. أصروا أن يؤيدهم علناً، لكنه رفض. بطرس حرب بدا متفهماً أما سعادة فقال إنه سيعود الى لبنان إذا لم يفعل البطريرك ذلك.