IMLebanon

إتفاق في الطائف ورفض في بعبدا

 

 

أسرار الطائف كما رواها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير 4

 

 

بعد إنجاز الإتفاق في الطائف كانت لدى البطريرك صفير مخاوف كبيرة من نتيجة استمرار العماد عون في رفضه وتمسكه ببقائه في قصر بعبدا وإفشال الحلّ الذي تمّت تغطيته دولياً. في روما استمرت الإتصالات واللقاءات مع البطريرك في “كان” تحت الضغط لم يتزحزح البطريرك صفير أيضاً. من كانوا يريدون منه إعلان موافقته على الإتفاق كانوا يتصلون. ومن كانوا يريدونه أن يرفضه كانوا يتصلون. العماد عون لاحقه بالإتصال إلى روما والأخضر الإبراهيمي كان يضعه في أجواء لقاءاته في لبنان. كان همّ البطريرك تفادي الإنقسام. هذا ما قاله لعون عندما قال له عون إن هذا الإتفاق أشرّ من الإتفاق الثلاثي. وسط هذه الأجواء تهيّأ البطريرك للعودة إلى بكركي.

في خضم هذا التجاذب الضاغط عليه، تلقى صفير إتصالاً من العماد ميشال عون وكان في سفارة لبنان لدى الفاتيكان في 21 تشرين الأول. قال له عون: “إنه لا يستطيع أن يخون الأمانة ويفرِّط بسيادة لبنان، وليأخذ النواب الموقف الذي يريدون. ووصف الوثيقة بأنها شرّ من الإتفاق الثلاثي وأنها تلزم لبنان بالتخلي عن سيادته”. قال له البطريرك: “المهم أخذ الموقف الموحّد وتفادي الإنقسام”. في اليوم نفسه إتصل به الرئيس حسين الحسيني طالباً دعم النواب المسيحيين، معتبراً أن ما حصل عليه الفيصل من الأسد لم يسبق أن حصل عليه أحد، وأن عدد النواب قد يكون 108 وليس 128.

 

في 22 تشرين الأول سلّمه سفير لبنان في الفاتيكان غازي الشدياق وثيقة اللجنة الثلاثية معدّلة بحسب الإصلاحات التي أدخلتها عليها سوريا بناء على طلب الأمير سعود الفيصل الذي كان سلّمه النواب المسيحيون ورقة مطالبهم بالتعديلات. وفي إتصال هاتفي أبلغه جورج سعادة أنهم اتفقوا على الموافقة على التعديلات وأبلغوا الأمير فيصل بذلك وطلبوا إليه إبلاغه الوثيقة التي صار الإتفاق عليها قبل إعلانها، وإبلاغ الجبهة اللبنانية والعماد عون والرئيس سليم الحص، ودعوة الأخيرين الى الطائف ليحضرا الإعلان الذي سيجريه الملك فهد. قبل سعادة كان اتصل به بطرس حرب الذي طلب موقفاً علنياً مؤيداً من صفير، لكن صفير لم يقتنع بإصدار موقف جديد واعتبر أن تصريحاً سابقاً له بهذا الخصوص يدعو فيه النواب أن يتحمّلوا مسؤولياتهم يكفي.

 

مساء ذلك اليوم زاره سفير فرنسا لدى الفاتيكان جان برنارد ريمون بناء على طلب حكومته، وكانت الساعة التاسعة مساء. كان الأمير سعود الفيصل طلب من سفيري فرنسا وإنكلترا ومن القائم بالأعمال السعودي أن يطلبوا من صفير تشجيع النواب على الموافقة على الوثيقة المعدّلة. تلا السفير أمام البطريرك التعليمات المكتوبة التي وصلته وسأله باسم الحكومة الفرنسية: هل وافقت عليه أم لا؟ وهل ستصدر بياناً علنياً في ذلك؟ أجابه صفير: “إن النواب اتفقوا على الموافقة وأنهم قابلوا الفيصل وبلّغوه موقفهم”…

 

في الوقت نفسه إتصل العميد ريمون إده بصفير ونقل إليه أن جورج سعادة والنواب يقولون إنه وافق على الوثيقة. نفى صفير ذلك وقال له إنه لا يوافق على شيء قبل أن يوافقوا. طلب منه إده رفض الوثيقة. بدا للبطريرك أن هذا الطلب عبثي طالما أن لا تصوّر لديه لأي حل آخر.

 

الإبراهيمي والمشهد الأخير

 

فيما كانت الإتصالات في الطائف تتقدم نحو الحسم النهائي، كان الموفد العربي الأخضر الإبراهيمي يمهد لإخراج المشهد الأخير في لبنان، حيث سعى الى إقناع العماد عون والرئيس سليم الحص بالمشاركة في إحتفال إنجاز الإتفاق. يوم الإثنين 23 تشرين الأول كان يزور الرئيس الحص في مكتبه ومن هناك إتصل بالبطريرك صفير. تحدث صفير أولاً مع الحص الذي أبلغه أن الإبراهيمي يريد التحدث معه. قال له الإبراهيمي: جئت بالأمس الى بيروت وقابلت العماد عون والدكتور سليم الحص ونقلت إليهما نتيجة ما وصلت إليه المساعي في الطائف. سأله صفير عن نتيجة إتصاله بعون والحص، أجاب: موقف الحص معروف وهو موافق. أما العماد عون فقال: لا موافقة قبل خروج السوريين. أضاف الإبراهيمي: قلنا له نحن منذ البداية لم نأت لإخراج السوريين والإسرائيليين، بل لتمكين اللبنانيين من العودة الى مناخ طبيعي، وهناك إجماع عربي ودولي من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وفرنسا وكل الدول في مجلس الأمن على الحل. نحن نريد إجراء مصالحة عامة نرغب ألاّ تبقوا خارجها. وتابع الإبراهيمي يقول لصفير: بعد خروجنا من عنده عقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه رفضه لاتفاقيات الطائف. وطلب الإبراهيمي دعم البطريرك صفير فقال له: نحن سنساهم على قدر طاقتنا في ذلك. رد الإبراهيمي: لن نذهب هذه المرة الى بكركي، وسنلتقي لاحقاً. قبل أن نغادر بيروت سنتصل بالعماد عون مرة ثانية وسنحضر اللقاء الذي سيعقده الملك فهد لإعلان الإتفاق.

 

في اليوم نفسه تلقى صفير إتصالاً من الدكتور جورج سعادة الذي أبلغه بأن العماد عون رفض الإتفاق. سأله صفير عن قوله له سابقاً إنه قبل، رد سعادة: داني شمعون قال لبيار دكاش (النائب) الموجود في الطائف: إمشوا بالإتفاق. وكان الجنرال عندما كلّمه بدا أنه موافق لأنه لم يعترض. وأضاف سعادة: إن الجنرال في مؤتمر صحافي تهدَّد وتوعَّد بمحاكمة النواب بالخيانة الوطنية. بعد ذلك طلب سعادة من صفير التدخّل لدى الفاتيكان والدول. أبلغه البطريرك أن مندوباً فرنسياً سيزوره. رد سعادة: يعلم الله كم عانينا، لنُتهم بالخيانة!

 

كانت النهائيات تترنح بين خاتمتين: إنجاز الإتفاق في الطائف، ورفض العماد عون في بعبدا. بينهما كان البطريرك صفير أمام الخيار الصعب. في الطائف يريدون بركته وعون في بعبدا يريده أن يرفض.

باريس: عون لا يمكنه أن يتقدم أكثر

 

في ظل هذا الإنقسام إستقبل صفير في 23 تشرين الأول يوم الإثنين، بعد حديثه مع الدكتور سعادة مدير عام الخارجية الفرنسية فرنسوا شير موفداً من الحكومة الفرنسية ومعه السفير الفرنسي في روما. تولّى الأول الحديث في ظل صمت مطبق للثاني الذي “لم ينبس ببنت شفة” كما قال صفير. المدير العام إعتذر عن تأخره عن الموعد المحدد وقال لصفير: أتيت لنرى معاً ما وصلت إليه المحادثات في الطائف، وأن التعديلات التي أُدخلت على الوثيقة التي وضعتها اللجنة العربية هي دون المطلوب، ولكن في الوقت الحاضر لا يمكن أن تتقدم القضية اللبنانية أكثر من ذلك، وموقف الحكومة (الفرنسية) هو أن نقول (أي البطريرك صفير) أنّا قبلنا بما وصلنا إليه لكنّنا نطالب المجموعة الدولية بمساندة لبنان للحصول على إستقلاله.

 

ومن الحديث إستنتج البطريرك الوقائع التالية:

 

1-أن فرنسا مع لبنان وسيادته واستقلاله وهو ضرورة عالمية وإقليمية.

 

2- إنّا (أي فرنسا) نعلّق تعاوننا مع سوريا على موقفها من لبنان، ولا نتصوّر أن سوريا ستواجه الرأي العام العالمي بتحقيق مطامعها في لبنان. ويجب أن يفهم الرأي العام العالمي قيمة لبنان. ولا نتصوّر أن سوريا ستصل الى غايتها عن طريق حكومة لبنانية موالية لها ولا عن طريق إستفتاء.

 

3-الجنرال عون له فضل ويجب المحافظة عليه، وهو يعلم أنه لا يمكنه أن يتقدم أكثر مما فعل ولا مجال للحرب بعد، إلا إذا دفعت سوريا حلفاءها الى البدء بإطلاق النار.

 

طلب منه صفير أن تقوم فرنسا بمسعى للحصول على ضمان إستقلال لبنان من مجلس الأمن والمجموعة الدولية. وبدا له أن لديه بعض التحفظ بشأن ما يقرره النواب في الطائف خصوصاً عندما سأله شير إذا كان يوافق على ما يقرّره النواب من دون تحفظ، بعدما كان صفير قال له خلال الحديث إن النواب سألوه رأيه وإنه قال لهم أنتم تتحمّلون المسؤولية وأنتم درستم وناقشتم الموضوع ونحن ساندناكم.

 

بعد هذا اللقاء الذي دام ساعتين تلقى صفير إتصالاً من بطرس حرب الذي نقل إليه أن الملك فهد سيستضيف النواب غداً الى مائدة غداء لإعلان الوثيقة النهائية، وأن تظاهرة شعبية توجهت الى قصر بعبدا وحطمت بعض المحلات، وأن العماد عون ألقى فيها خطاباً قال فيه إن الشعب قال كلمته. أنهى حرب حديثه قائلاً: يبدو أن عون سيمنع النواب من العودة الى لبنان.

 

كان مشهد الرفض المتصاعد من قصر بعبدا يمكن أن يؤثر على موقف صفير. ولكن يبدو أن ما كُتب كان قد كُتب. حتى فرنسا ليست معارضة وموقفها قريب من موقفه بأن ما حصل أفضل الممكن وأن لا مجال أمام عون ليرفضه ولا يمكنه أن يتقدم أكثر.

عون رفض وتظاهرات

 

يوم الثلثاء 24 تشرين الأول إتصل الدكتور سعادة بالبطريرك وقال له إنه يفكر بزيارته مع أحد النواب في روما قبل أن يتوجه الى المغرب والجزائر لشكرهما. في هذا الوقت كان صفير يتلقى أخبار الدعوة الى إضراب عام رفضاً للإتفاق ويسجّل “أنه عندما لم يحصل تجاوب عمد بعضهم ومن بينهم أفراد جيش الى قطع المعابر وإحراق دواليب كاوتشوك تعبيراً عن الإستياء من الإتفاق الذي تم في الطائف والذي سيعلنه الملك فهد اليوم…”

 

القائم بالأعمال الأميركي في روما لوران غراغو إتصل بدوره بصفير وحضه على تشجيع النواب. رد صفير متمنياً أن تكون حكومته أكثر إنصافاً للبنان. أما السفير البريطاني لدى الكرسي الرسولي، فقد نقل إليه أن حكومته لا تزال تقول إن الحرب في لبنان أهلية، فطلب منه صفير إعلاناً من مجلس الأمن يدعم سيادة لبنان.

 

الى جانب التظاهرات الرافضة للإتفاق، دعا العماد عون رؤساء الطوائف المسيحية الى إجتماع معه. إتصل المطران رولان أبو جودة بالبطريرك صفير وأطلعه على الأمر وسأله رأيه. قال له صفير: لا بأس بتلبية الدعوة، ونحن مع وحدة الصف وضد الإنقسام.

 

يوم الأربعاء 25 تشرين الأول، الثامنة صباحاً، إستقبل صفير رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الإيطالي Ricolli الذي أبلغه أن موقف العماد عون يدعو للقلق وسأله ما العمل؟ قال له صفير إنه سيحاول أن يبقى صلة وصل بين عون والنواب، وطلب منه أن يضمن مجلس الأمن إستقلال لبنان وسيادته. بعد ذلك، إنتقل صفير الى مقر وزارة الخارجية الإيطالية حيث التقى الوزير دي ميتاليش ملاحظاً أنه “ضخم الجثة وله شعر يتدلى في رقبته ويكسوها”، وأنه إشتراكي بروتستانتي. في اللقاء الذي دام نصف ساعة طلب منه صفير أن يساهم على صعيد المجموعة الأوروبية والمجموعة الدولية في الحصول على ضمان إستقلال لبنان وسيادته.

 

يتبع: عون لا يسلّم إلا عون