IMLebanon

5115 يوماً على اغتياله… من قتل بيار الجميل؟

 

شهيد لبنان حامل الملف رقم 16

 

مثل اليوم، قبل أكثر من 5115 يوماً، إغتيل الشاب بيار الجميل، حاملاً الرقم 16 في سلسلة الإغتيالات التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري. يعني هناك 15 قضية إغتيال أو محاولة إغتيال قد سبقته وما زال فاعلوها طلقاء بيننا. وهناك جريمة لاحقة طيّرت البشر والحجر والصواب في بيروت وما زال مسببوها يرتدون في الشكلِ “طاقة الخفاء”. فهل هناك لزوم لنسأل بعد: ماذا عن مسار التحقيق باغتيال الشهيد بيار الجميل؟

 

هو صاحب شعار “بتحبّ لبنان حبّ صناعتو”. وهو القلب النظيف الذي إذا أحبّ دافع بكل ما يملك، حتى بالروح، وإذا عارض واجه كما المارد، وإذا خُيّر بين الموت أو الانصياع اختار بذل الذات. هو من صنفِ الرجال الأوفياء الصادقين حتى أن المجرمين القتلة “لو عرفوه لما قتلوه”. وهو الطفل “الورش” المرح الذي تعلم رندحة “كلنا للوطن” قبل أن يمشي. هو حفيد بيار الجميل الجد الذي توفي وهو بعد بعمر الثانية عشرة. وهو أب أمين والكسندر وعمه بشير، الشيخ بشير، الذي سبقه في درب الشهادة.

 

هناك، على طريق سد البوشرية ـ الجديدة، التي تتفرع منها عشرات الأزقة، وقبل كنيسة مارمطانيوس بقليل، قُتل قبل المغيب، قبل ساعات من موعد الإحتفال باستقلال لبنان. فهل استسهل القاتلون النيل منه؟

 

فارس سعيد يستمرّ منذ ذاك الحين بتوجيه رسائل سنوية إليه يُخبره فيها عن حال لبنان والثورة والحرية والسيادة والاستقلال وزاد عليها هذه السنة حكاية اغتيال بيروت. فهل هو أيضاً حيّ فينا؟ هل نستسهل نحن شهادة هؤلاء، أمثال بيار، بالقول: هم أحياء فينا، من دون أن نعمل بالفعل لا بمجرد القول لبقاءِ القضايا الكبرى التي ماتوا من أجلها حيّة؟ يجيب فارس سعيد: “أهمية بيار الجميل أنه رسم حدود لبنان بدمه. وهو لم يمت كبيار الجميل بل كلبناني بذل دمه من أجل قضية لبنانه. فشهادته رد على كل من يريد أن يفرض وصايته. وهو من قافلة شهداء لبنان الذين استشهدوا من أجل كل لبنان”.

 

محبو بيار قد يقرأون بهذا الكلام بعض الشعر والنثر فهو، كما كثير من الشهداء، ذهبوا ولم يصدر أي قرار قضائي باتهام قاتليهم. في كل حال، ماذا يتذكر فارس سعيد في هذه الذكرى الجديدة من شهيد كل لبنان؟ يجيب: “تعرفتُ عليه في قرنة شهوان والمجلس النيابي والبريستول و14 آذار. كان رجلاً مميزاً وواعداً وصاحب القلب الكبير والرغبة بأن يتعلم ويستخلص من دروس الماضي والانطلاق وفق قواعد جديدة. كان همه ملاقاة الآخر في نضال مشترك ونجح. كان صاحب شخصية محببة قريباً من القلب وكانت الجلسة معه ما “بتتفوت”. ذكي ويتمتع بحيوية الشباب التي لم نرها بأحد من بعده”.

 

 

تتكرر هذه الصفات على ألسنة من عرفوه جازمة حاسمة بتمتعه بما قلّ نظيره. فها هو الياس الزغبي يُكررها، وهو من تحمس بيار كثيراً لانضمامه، على ما قال الزغبي، الى قوى الرابع عشر من آذار. ويضيف: “كل الذين عاشروه وتعاملوا معه يجمعون على هذه الخصال التي تمتع بها وأبرزها: الصدق والعفوية والذكاء. وهو أمر نادر أن تجتمع هذه الخصال الثلاث في شخص واحد. وهذه الصفات تبلورت في الاجتماعات الرسمية الواسعة لقيادات 14 آذار، ما بين البريستول وقريطم والبيال. كان يشدّ الانتباه والاهتمام الى حيويته في النقاشات وقدرته على تقريب وجهات النظر. وكانت علاقاته مميزة وجيدة ومتوازية فعلاً مع جميع الأطراف. وهو استطاع حينها تخليص حزب الكتائب من الانحرافات الخطيرة التي أقحمته بها القيادات السابقة زمن كريم بقرادوني، حين صار الحزب أكثر قرباً من النظام السوري. نجح الشهيد في اعادة حزب الكتائب الى سياقه التاريخي. وبنى علاقات ممتازة مع الزعماء الثلاثة سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع”.

 

وماذا عن علاقته مع ميشال عون؟ يجيب الزغبي: “كانت هناك نقاط تباين. ومحور الخلاف الرئيسي والجوهري استراتيجياً في النظرة الى السيادة والكيانية اللبنانية. فالتيار العوني ذهب في اتجاه آخر وانحرف نحو التحالف مع “حزب الله”، في حين حافظ الشهيد بيار على الأداء التاريخي”.

 

الياس عطاالله من جهته يسارع الى وصف الرجل – الشهيد بكلمة واحدة “كان صديقي”، ليعود ويسترسل في ما جعل بيار رقماً صعباً بالقول: “كان ملتزماً وبلا ادنى شك متحمساً ومندفعاً بعيداً من الأنانية وحب الذات. وكان حاضراً في كل النشاطات. والمجرم يعرف من يختار. ويوم استشهد وصلت بعد دقائق الى منزله فقالت لي والدته “من سيسهر الى جانبك في الساحات بعد اليوم؟”. عطاالله ينتقل بكلامه الى “تخربط” الأمور من بعد الشهيد والى الخطر الكبير الذي تمثل بـ”حزب الله” الذي أخذ لبنان والثورة “شقفاً شقفاً” الى المحاور، في حين أصر مع من أصروا على “عربية هوية لبنان ونهائية كيانه” والى وجوب الحياد، وبأن مشاكلنا ليس سببها النظام بل الرجال الذين نسميهم “رجال دولة” يقودون النظام. ويستطرد متطرقاً الى “المساومات الكثيرة التي ارتكبت وهي أخطاء مميتة ضد جوهر الهدف، الذي سعت إليه انتفاضة الاستقلال وتمثلت بالاتفاق الرباعي وبالذهاب الى مؤتمر الدوحة. انتفاضة الاستقلال التي أسقطت حكومة و”قبعت” الوصاية السورية والاحتلال بدأت تفقد قوتها منذ تحولت بالإسم الى قيادات 14 آذار. وهذه أكبر انتكاسة الى دماء الشهداء”.

 

نعود الى فارس سعيد لسؤاله عن مسار ومصير التحقيق في قضية بيار الجميل فيجيب: “بعد العام 2005 تمّ استهداف رموز يملكون القدرة على محاكاة الشباب، ومع استمرار الاغتيالات وتوالي الأحداث أصبح التحقيق مترابطاً بقضايا كبرى”. في هذا الإطار يقول الياس الزغبي: “معياران لازما الاغتيالات، أولهما النيل ممن هو الأكثر سهولة. وثانيهما، النيل ممن يملك الفعالية والخطورة على الفريق الآخر. ولم يكن بيار في فترة من الفترات معززاً بحماية استثنائية وكان يعتبر ان نواياه الطيبة ووضوح سياسته كفيلان بحمايته. فأهمل، من ناحية الشكل، حمايته الشخصية. والسبب الأكثر عمقاً أنه كان قد بدأ يتحول الى رقم صعب ويُصبح من قماشة القيادات. وبدأ صعوده السياسي يشكل خطراً على قوى 8 آذار كونهم ما كانوا قادرين على تحميله وزر حروب ماضية. ونجح في استقطاب السنة والدروز والشيعة خارج إطار الثنائية الشيعية والمسيحيين”.

 

نعود الى سؤالنا الأول، هل ذهب موته سدى؟ هل التحقيق في موته انتهى؟ يجيب الزغبي: “استشهاد بيار عزز وحدة الدماء بين الطوائف لذا يُدرج استشهاده في خانة “الشهادات الكبرى” من كمال جنبلاط الى بشير الجميل فرفيق الحريري. وأغرب ما شاهدناه أن قتلته مكشوفون في النطاق الجغرافي والمناطق التي قصدوها. وبالتالي التحقيق في اغتياله كان يمكن ان يكون من أسهل التحقيقات التي يمكن ان توصل الى نتيجة”.

 

ما رأي المحامي طارق شندب، الذي تابع ملف التحقيق الدولي في قضايا الاغتيال المتلاحقة، بملف اغتيال بيار الجميل؟ يجيب: “مصير التحقيق في هذا الملف يدعو حقاً الى التساؤل”، ويستطرد: “لا بُدّ من الاشارة الى ان من صلاحيات المحكمة الدولية كان ضمّ جميع القضايا التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتي سبقت اغتياله وتلك التي تتعلق بموضوع اغتياله. ومن الناحية الشكلية السياسية جاء اغتيال الشهيد الجميل في اطار الاغتيالات او محاولات الاغتيال التي طالت مروان حمادة ورفيق الحريري وانطوان غانم ومحمد شطح ووسام الحسن ووسام عيد، لكن لم يُضمّ ملفه الى المحكمة الدولية على اعتبار ان المحكمة في نظامها الداخلي تعتبر بوجوب ان تكون هناك أدلة على الترابط بين جريمة اغتياله وجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. علماً انه يوجد من الناحية الشكلية هذا الترابط لأن الجريمة التي اقترفت بحقه جاءت في سياق استهداف فريق سياسي واحد معارض لـ”حزب الله” والنظام السوري. لكن، لم يتبين للمحكمة والمحقق العدلي والمحكمة الخاصة بلبنان وجود ترابط بين الجرمين لهذا لم تُضمّ لكن، لنكن صريحين، قصّر القضاء اللبناني كثيراً في التحقيقات. فهل يُعقل بعد مرور كل هذه الأعوام الطويلة، لم يصدر اي قرار اتهامي بعد في هذه القضية؟ هل هي من القضايا التعجيزية الكبرى في العالم؟ العدالة البطيئة هي ظلم والعدالة المتأخرة هي ظلم. وهي عذاب الى أهالي ومحبي الضحايا وتشجيع للمجرم”.

 

 

مضى 5115 يوماً تقريباً على استشهاد بيار الجميل. واليوم ذكراه. هو بطلٌ من أبطال الحرية والسيادة والاستقلال في بلدٍ لم يتصرف يوماً كوطن ودولة. بيار الجميل أبى أن يصبح طبيباً أو مهندساً أو “سياسياً” من طينة السياسيين الذين عرفناهم، بل أصرّ أن يدرس الحقوق ويقاوم في بلد غوغائي لا حقوق فيه لا لحيّ ولا لميت ولا لشهيد حتى لو هتفنا باسمه وقلنا: إنه شهيد- حيّ. بيار الجميل انتقل الى حيث لن تضيع الحقوق.