IMLebanon

هل عودة لبنان إلى الحياة مستحيلة؟

 

لا يمكن أن نبني بلداً وسط هذا التمترس الجبهويّ العمودي؛ إذ لا يلبث أن يطلق أي سياسي تغريدة أو تصريحاً سياسيّاً حتّى يتمّ تحريف تصريحه نحو «التابوهات» الدينية ليُصار إلى تكفيره وسفك دمائه من جوقات الشتّامين الذين يتحرّكون بآلات التّحكّم من بعد، ناهيك عن تُهم العمالة المُعَلَّبَة سلفاً، والساقطة مسبقاً، مع الإشارة إلى استحضار شبح الاستزلام للسفارات، وبالتحديد للسفارة الأميركيّة في عوكر.

 

مع العلم أنّ الواقع الذي نعيشه اليوم يدحض هذه الاسقاطات المعلّبة سلفاً حيث شهدت المفاوضات التي جرت في الناقورة لترسيم الحدود البحريّة كيف أهدت «منطمة حزب الله» حقل كاريش للعدو الاسرائيلي بضغط أميركي وبإشراف هوكشتاينيٍّ علنيٍّ وصريحٍ.

 

أمّا مسألة التأليه التي تنخر فكرنا السياسي فهي بحدّ ذاتها تدمّرنا من الدّاخل. فرئيس الحزب، أو أمينه العام، أو الزعيم، هؤلاء كلّهم بشر غير معصومين عن الخطأ؛ ويجب أن يبقوا دائماً وأبداً تحت مِجهر الانتقاد الموضوعي بهدف تصويب الأداء، متى جنحوا.

 

هذه الثقافة النقديّة التي نفتقدها هي من أبرز الأسباب التي أودت بمجتمعنا اللبناني إلى هذا الدّرك من الانحطاط السياسي؛ وأكثر من ذلك، باتت معظم الخيارات السياسيّة لقسم كبير من اللبنانيين قائمة على التوجيهات العائلية أو العشائريّة أو حتّى الحزبيّة؛ وأحياناً تحكمها العلاقات التي تتحلّى بالطابع الاجتماعي القائم على «الواجبات الاجتماعية» كالمشاركة في الأفراح والأتراح.

 

أمام هذا الواقع المزري لم يجد اللبناني أي خشبة خلاص أمامه إلا الشارع ليعبّر عن استيائه وغضبه. لكن عدم اعتماد هذا الحراك على خلفيّة فكريّة لم يسمح باستمرار ما حدث في 17 تشرين. وفي مقارنة بسيطة مع ثورة الأرز التي جرت في 14 آذار 2005 نلحظ أنّ روحيّة هذه الثورة ما زالت حتى يومنا قائمة؛ وأكثر، لقد حقّقت على الأقل طرح الانسحاب السوري الذي حملته وقتذاك. لكن ثورة 17 تشرين جلّ ما حقّقته هو إسقاط حكومة سعد الحريري من دون أن تحقّق الأهداف الكبرى التي أطلقتها. مع الأخذ بالاعتبار الاعتداءات التي تعرّض لها الثوّار وقتذاك من قبل أزلام المنظومة والسلطة والمافيا والميليشيا. فهؤلاء كلّهم عملوا على إبادة الشعب اللبناني إبادة معتمَدَةً كي لا تقوم له قائمة، ليبقى اتّحاد المافيا والميليشيا هو الحاكم الآمر النّاهي.

 

ولكن هذا النّجاح الذي حقّقه هذا التّحالف العميق لم ينفرط عقده، برغم الاختلاف على المصالح بين أهل هذا البيت الواحد، كما نشهد اليوم التباين على الخلفيّة المصلحيّة في ملفّ رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة بين فريقي تحالف 6 شباط، أي منظومة «التيارالوطني الحر» و» منظمة حزب الله»، إضافة إلى الاشتباك المباشر مع رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجيّة. لكنّنا لم نسمع أيّ تصريح من التيّاريّين قادة وأفراداً حول دور سلاح «منظمة حزب الله» وانعكاس هذا الدّور على الوضع السياسي العام ما أدّى إلى ما آلت إليه الأمور. بل بقيت تصريحات هؤلاء مجرّد انتقادات خريفيّة ستتبدّد حتماً بعد الاتّفاق على اقتسام الجبنة من جديد.

 

وما رشح من هذا التباين، الاعتراف العلني بفرنجيّة مرشّحاً لهذا الفريق بعد المواقف الأخيرة للرئيس برّي التي لم يتمّ نفيها أو إنكارها. حيث بات فرنجيّة مرشّح هذا الفريق ولم يعد للمرشّح جبران باسيل أيّ مكان وسط هذا الفريق. وبما أنّ طبيعة هذا الفريق السياسيّة هي من طبيعة ماركنتيليّة وفق ما أثبتت التّجارب السياسيّة معه من اتّفاق 6 شباط إلى اتّفاق 18 كانون الثاني، لا يبدو أنّ المستقبل السياسي له سيكون مشرقاً إلا إذا أجرى قراءة ذاتيّة موضوعيّة ونقديّة. وهذا ما يُستبعَدُ استناداً إلى التّجارب.

 

في المقابل، تمسّك الفريق السيادي بمرشّحه الرئاسي قد أظهر عقم محور الممانعة. لكن على هذا الفريق بالذات أن يستنهض قواه السياسيّة بالكامل عبر طرح جديد يخرج فيه من الإسم مع الاحتفاظ والتمسّك بالمواصفات والمعايير الرئاسيّة؛ علّه قد يفتح كوّةً في جدار الأزمة الرئاسيّة. وفي ذلك فرصة للفريقين السياسيّين المتصارعَين، مع تفوّق واضحٍ للفريق السيادي في هذه الحالة.

 

المأزوميّة الممانعتيّة في أوجها. حيث فقد هذا الفريق إمكانيّة الاستفادة من أيّ راعٍ إقليميّ لأنّ راعيه الوحيد تمّ إسقاطه من قبل شعبه. وكي لا نفرط بالتفاؤل في هذا الموضوع بالذات، فعلى الأقلّ تمّ شلّ قدرات هذا الراعي. ودوليّاً تمّ خداعه وأخذ منه ما أراده المجتمع الدّولي خدمة لحليفه العدو الاسرائيلي حصراً، فأُكِلَ سمكاً ورُميَ حسكاً على شاطئ النّاقورة. فضلاً عن أنّ انفجار الشارع لن يكون أبداً من مصلحة محور الممانعة. حيث لن يتمكّن عندها من ضبط شارعه، حتّى لو استخدم القوّة المفرطة وسحاسيح الاعتذار وتقبيل النّعال. لذلك، لم يتبقَّ أمامه سوى المماطلة لإطالة عمر هذا الشّغور بهدف تثبيته فراغاً واقعيّاً بانتظار أيّ مُتغيِّرٍ قد يقلب الموازين. فكلّما أسرع السياديّون بتفكيك صواعق هذه المماطلة عاد لبنان أسرع إلى الحياة.