IMLebanon

فوبيا تغيير النّظام

 

 

لا يختلف اثنان على أنّ طبيعة الأزمة الراهنة لم تعد محصورة في مجالها الاقتصادي فقط، بل هي تعدّت ذلك إلى ما هو أبعد بكثير، حتّى بات الحديث عن المطالبة بتغيير للنّظام اليوم أمراً ملحّاً في الوسط السياسي والاعلامي والفكري. ولم يعد بالامكان الاستمرار بلبنان كما هو، لا سيّما بعد ما أثبتته التجارب من عثرات وعورات اعترت نظامه السياسي.

 

لكنّ للحقيقة أبعاداً مختلفة. فالحديث لم يعد يقتصر على النّظام السياسي كنظام تُدَار بواسطته شؤون النّاس بل انتقل الحديث عن “الصيغة اللبنانيّة” التي طبعت تلك الكِيانيّة التي قام على أساسها هذا الوطن، حيث لم تعد تتّسع لأحلام مَن بات يملك مفاتيح القرار السياسي في الحكم. وأعني هنا بالتحديد الثنائيّة الشيعيّة التي تديرها “منظمة حزب الله” سياسيّاً وعسكريّاً ورئيس مجلس النواب نبيه برّي مؤسّساتيًّا.

 

وهذا الفريق بالذات يمارس فوقيّته نتيجة النشوة الاستعلائيّة التي وفّرها له فائض قوّة السلاح، ويترجم ذلك في الميادين كلّها. ويظهر هذا الفريق نفسه بمثابة المحاوِر متى فقد القدرة على استعمال سلاحه على أرض الواقع نتيجة تطويقه بمعاهدات الترسيم الدوليّة. ولا يتوانى لحظة عن استخدام كليشيهات درج على استخدامها في فترات الحرب البغيضة فيتّهم أيّ سياديٍّ في لبنان يطالب بتطبيق السيادة بنشوة التمايز والتفوّق. لكأنّ غيمة السيادة هذه لن تغطّي رأسه هو أيضاً! في ذلك إسفاف واستخفاف بعقول النّاس جميعهم. أهمّ مفاعيل 14 آذار أنّها أسقطت “المارونوفوبيا” و”السنّوفوبيا”. ولكن أسوأ مفاعيل 6 شباط 2006 أنّها استبدلتها بـ”شيعوفوبيا”. وهذه كلّها مرفوضة. فلا فوبيا من أحد. وطرح أيّ فكرة سياسيّة جديدة من شأنها تمتين أواصر التعدّديّة اللبنانيّة على القاعدة التكامليّة الوطنيّة يجب ألا تثير حفيظة أيّ فريق. بل العكس تماماً يجب أن تشكّل مساحة حرّة للبحث في ما هو خير للبنانيّين جميعهم، على اختلاف انتماءاتهم الحضاريّة، وعلى قاعدة المواطنَة اللبنانيّة فقط.

 

فالذي يطالب بالحفاظ على “الطائف” ويسعى لعدم تطبيقه ويتسيّد النّظام المركزي البائد ليخدم مصالحه، وخلف ذلك يضمر تغيير الصيغة اللبنانيّة نحو نظامه الأيديولوجي المذهبي لولاية الفقيه شيء؛ والذي يطالب بتطبيق النّظام اللامركزي الموسّع المنصوص عليه في اتّفاق “الطائف” ويتجرّأ ويطرح مسأله البحث في النّظام السياسي لكبح يد “منظمة حزب الله” وحلفائها عن مؤسّسات الدّولة وتعطيلها للإتيان برئيس جمهوريّة يحقّق مشروعها الإيديولوجي، هذا شيء آخر مختلف تماماً.

 

رئيس يبني دولة

 

نريد رئيساً يبني دولة فعليّة قويّة في جمهوريّة قويّة وقادرة يُحتَرَمُ فيها الإنسان الذي كما كتب اللبناني الدكتور شارل مالك في المادّة 18 من الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان “حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”.

 

ويتذكّر اللبنانيّون أيضاً المثلث الرحمة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي قال مرّة : “إذا خُيِّرنا بين الحرّيّة والعيش المشترَك نختار الحرّيّة”. وهذا الكلام لا ينمّ عن أيّ شعور بالكراهية تجاه الآخر المختلِف. بل في ذلك بحث وجوديّ في كيفيّة الحفاظ على هذه الصيغة الكيانيّة التي تسمح بالتكامل ما بين الحضارتين المختلفتين. ولعلّ ما يحاول فريق سلطة إيران في لبنان القيام به اليوم هو دفع اللبنانيّين نحو المشاريع التقسيميّة أكثر فأكثر. وذلك لقناعته المضمرَة بأنّ أنموذج صموئيل هنتنغتون الفيلسوف اليهودي في بناء الدّولة العنصريّة المبرَّرَة بنظريّة صراع الحضارات التي أطلقها في العام 1996 هو الذي يريده ويشبهه أكثر من نظريّة لبنان الرّسالة التي أطلقها قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني ردّاً على هنتنغتون في العام 1997 ومن لبنان بالذات، ليدحض بالأنموذج اللبناني الحيّ أنموذج هنتنغتون الميت في الدّولة العنصريّة.

 

ويصرف هذا الفريق بالذات جهداً كبيراً في شيطنة الأفكار الإتّحاديّة التي تحفظ التعدّديّة اللبنانيّة القائمة على التنوّع في الوحدة والوحدة في التنوّع. مضمراً بذلك كراهية للمسيحيّين بأوجه عديدة ومتستّراً بتفاهمات ذمّيّة لا تمتّ إلى التّاريخ المسيحي– الحواري بشيء من الحقيقة. وذلك معطوف على جهل أو تجهيل أكاديمي علمي سياسي واجتماعي لطبيعة الأنظمة حتّى بات كلّ مَن يطرح البحث في أيّ صيغة لامركزيّة أو فدراليّة أو حتّى كونفدراليّة تقسيميّاً إنعزاليّاً وحتّى فاشيّاً وشيطاناً أكبر. فيما هذه الأنموذجات هي أرقى النظم الإتّحاديّة في العالم.

 

ما المطلوب إذًا؟ هل عدنا في العام 2023 على أعتاب تعطيل انتخاب رئيس الجمهوريّة إلى الخيارات الثلاثة التي طُرِحت على الموارنة السريان، أبناء جبّتي المنيطرة وبشرّي، وجبل لبنان التي تقضي راهناً، إمّا بالتّشيُّع، أو الرّحيل والهجرة، أو العيش بذميّة؟ مَن لم يقرأ التاريخ فليعرف أنّ الخيار الرّابع هو الذي تَركُنُ إليه هذه الجماعات دائماً وهو: البقاء والصمود والمقاومة حتّى تحرير كلّ فكر استوطنته هذه الأفكار العنصريّة.

 

نعم نقولها وبكلّ فخر، لأنّ هذا الستاتيكو التعطيلي الذي بلغ أكثر من 15 سنة لم يعد مقبولاً. ولأنّ الستاتيكو التكاذبي في عمليّة الانصهار الهويّاتي في زمن تعدّد الهويّات والعولمة والحداثة الرقميّة لم يعد مقبولاً أيضاً. ولأنّ الاقتتال والصراع الحضاري لا يمتّ إلى تاريخ وجوديّة هذا الوطن وكيانيّته بشيء. تفضّلوا إلى انتخاب رئيس جمهوريّة يحفظ كرامة اللبنانيّين كلّهم. ويكون هو نفسه الحكم، وفقاً للدور الذي أناطه به الدّستور اللبناني اليوم. فما يجب هو البحث في كيفيّة نقل الصيغة اللبنانيّة المعطَّلَة بفعل السلاح والديمقراطيّة التعطيليّة اليوم إلى صيغة جديدة، أقلّها أنموذج سويسري إتّحادي حيادي كِيانيّ كي لا نذهب ولو مرغمين إلى قبرصَة لبنان في كِيانيَن استعادة لتجارب ناجحة مضت، لأنّ الأمور لا يمكن أن تكمل بعد اليوم هكذا.