IMLebanon

بين البراغماتي وتاجر السياسة عندنا

 

 

يا واد يا يويو يا مبرراتي يا جبنة حادقة على فول حراتي آستك لسانك، فارد ولامم، حسب الأبيح يا مهلباتي في كل جلسة تلبس قضية وتخيّل عليها قوي يا مشخصاتي حسب الوظيفة وانت وشطارتك، تظهر حلاوتك تظهر مرارتك، لو خفضوك، ترتفع حرارتك لو صعدوك حالا تنقلب جيلاتي وبالمناسبة، وانت اللي أدرى، كان لك تحفظ على المبادرة ليه النهاردة، بترش بدرة، يا ابن الأبالسة يا ملطفاتي يا واد يا يويو يا مبرراتي (احمد فؤاد نجم)

كلمة براغماتية مشتقة من اليونانية، وتعني «قضية» أو «فعل» أو «ممارسة». هي تشير إلى أن معيار تقييم الأفكار هو في النتائج العملية ومدى إفادتها. يعني أن التفاضل بين الأفكار والسياسات هو قابلية تطبيقها العملي، ومدى تحقيقها للغاية المرجوة. هذه الفلسفة لا تولي المبادئ والعقيدة أي اهتمام. تُعرّف البراغماتية في السياسة بسعي السلطات العملي لتحقيق نتائج وأهداف مُحددة، وتقوم بتسويغ السياسات التي اتبعتها بناءً على النتائج العملية الناجحة. غالبًا ما تتم الدعوة إلى البراغماتية تحت بنود حماية الشعب وتوحيده، لكنها في الواقع تعزز القيم الفردانية للأفراد، وتغيّب الأخلاق عن السياسة. نشأت فكرة البراغماتية في بريطانيا عام 1878، لكنها تطورت في أميركا في أواخر القرن التاسع عشر حيث قام الفلاسفة شارل بيرس وجون ديوي وويليام جيمس بتطويرها في بداية القرن العشرين، وغالبًا ما تُوصف السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية بالبراغماتية. تسعى البراغماتية لتلبية ما يحتاجه البشر باعتبارها ضرورة ملحّة أكثر أهمية من معرفة المفاهيم. هي تؤكد المنفعة وتُعارض المبادئ والقيم، وتهتم بقوة الإنسان جنبًا إلى جنب مع تعزيز الديموقراطية، وتهتم بالعلم الذي أساسه التجربة، كما أنها تنادي بالتعددية وترفض القيم والعادات الاجتماعية.

 

ولتبيان ما هو عكس البراغماتي، يستخدم الغرب كلمة أيديولوجي تعبيرًا عمّن لديه منظومة قيم ومبادئ تخص الوطنية والقومية والدين، على عكس البراغماتي الذي لا يملك أي أيديولوجيا أو قيم ثابتة، وتنبع تصرفاته وسلوكياته بناءً على مصالحه الشخصية. تأثرت السياسة الأميركية بالبراغماتية كمنهج، لأنها في الأساس من أهم المكونات التي تشكل المجتمع والنظام الأميركي القائم على النفعية والمصالح، ودأبت الولايات المتحدة الأميركية على اتباع البراغماتية في السياسة الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قامت بتبني كثير من مشاريع الهيمنة بطابع حسب النموذج الإمبراطوري الأميركي الحديث.

 

لكن هناك تعبيرا سياسيا آخر، حاول علماء الفكر السياسي تفريقه عن البراغماتية، وهو المركنتيلية السياسية أو التجارية السياسية. ظهر الفكر المركنتيلي في القرن السادس عشر، وهو مبني على أن الفارق ما بين البيع والشراء هو ما يشكل الثروة. لكن فلسفة «أدم سميث» عام 1776 في كتاب «ثروة الأمم» رفضت كثيرا من هذه الأفكار التجارية القديمة. أظهر سميث أنه لا ينبغي الخلط بين المال والثروة، فإن «ثروة أي بلد لا تتكون من ذهبها وفضتها فقط، بل في أراضيها ومنازلها وسلعها الاستهلاكية على اختلاف أنواعها».

 

اعتبر سميث أن المركنتيلية هي مجموعة من الأفكار القديمة الخاطئة حول السياسية الاقتصادية. فالمركنتيلية تؤمن أن هناك مقدارًا محدودًا من الثروة في العالم، يتنافس من أجله جميع الدول بعضها ضد بعض. فترى المركنتيلية أن الصادرات تجعل الاقتصاد أكثر ثراءً، لأنها تجلب الأموال إلى الداخل، فيما أن الواردات تثري الدول الأخرى المنافسة. تعتمد هذه الدول على زيادة التعريفات الجمركية والرافعة التجارية والقوة العسكرية لتعظيم ميزانها التجاري، لأنها تريد ضمان بقاء هذا الميزان إيجابًا بشكل مستدام لها.

 

ما هو سائد اليوم في التعابير السياسية هو أن نعت السياسي بالمركنتيلي يعد هجاءً صريحًا له، أما وصف البراغماتي، ومع أنه يعني فقدان التمسك بالأخلاقيات والضوابط الإنسانية لفعل السياسي أو قوله، لكن الأتباع يضعون الصفة في موضع التمجيد والدفاع عن الزعيم، ومن الطبيعي أن يعاكس الخصوم هذا الموقف ليصفوا السياسي البراغماتي بأنه مركنتيلي!

 

وعلى رغم من بعض التفاصيل، لم أتمكن من إيجاد فروقات واضحة بين البراغماتية والمركنتيلية في السياسة في لبنان. فالجميع، كما التاجر، أو المركنتيلي، يَزن مساره السياسي بميزان الربح والخسارة للذات أولاً، أي الزعامة والسلطة والمال، ومن ثم، كما يفعل البراغماتيون، يغلفون القرارات النابعة من المصلحة الذاتية بالمصلحة العامة. وهنا، تتداخل المصلحة الوطنية مع الطائفية مع المذهبية مع المناطقية… ولكن، كلها في معظم الأحيان، تصبّ في جيب تاجر سياسة، ينصّبه الناس كزعيم براغماتي، يبحث عن تأمين مصلحة جماعته، متجاوزًا الأخلاق والمبادئ والدساتير والقانون.

 

المصيبة الكبرى في واقعنا اللبناني هي أن الجمهور، الذي لا ينفك عن انتقاد تجار السياسة، ويصفهم بالفاسدين والمفسدين، ويدّعي التمسك بالأخلاق والقانون ونظافة الكف، يعود ليدافع عن زعيمه المركنتيلي البراغماتي، إما بالتكتل لحمايته من المحاسبة، أو بالتهديد بحرب أهلية في حال تم استهدافه، أو بإعادة انتخابه بشكل ديموقراطي حر، على رغم من تراكم الاتهامات بحقه. ولمن يسأل عن هذا الأمر، فما عليه إلا مراجعة كيف يتم تجاوز الدستور الذي يضع السلاح فقط تحت راية الدولة، يتجاهل القرار 1559، بحجة أنه يهدد السلم الأهلي. ويتجاهل مسألة القبض على القتلة المعروفين بقضية رفيق الحريري، بحجة أنه يضر السلم الأهلي. ويعطّل القضاء والتحقيق في قضية المرفأ، بالحجج ذاتها. ويعطل تداول السلطات ويقفل مجلس النواب ويمنع تأليف حكومة أو انتخاب رئيس للجمهورية، حتى ولو تحول البلد رماداً. وعلى رغم من ذلك، فلدى كل هؤلاء التجار جمهور عريض يضع حياة أبنائه فداءً لرجل «السيد»، وبلقب «السيد»، فأنا لا أحدد شخصًا في ذاته، بل في حالة جنون جماعي يظن التابع فيها أنه قنٌ من الأقنان في عهد الإقطاعية، يظن نفسه عبدًا عند سيد يملك ناصية روحه وروح عائلته…

 

هذه الحلقة المفرغة، هي التي أبّدَت منطق الفساد بمختلف أنواعه، ليس فقط في تعامل السياسيين مع الدولة ومع المصلحة العامة، بل في طريقة تعامل المواطن مع الدولة ومع الآخرين. وذلك، على رغم من «النق» المستدام حول الفساد والفشل المزمن في إدارة الدولة، ورغم اليأس من إمكانية نجاح الزعيم في إحداث أي فارق إيجابي، لأن الاعتماد على ما يمكن التسبّب به من فارق سلبي، أي التعطيل بمختلف الطرق، بالقانون أو ضده، بالدستور أو عكسه، بالسياسة أو بالعنف. صحيح ان بعض اللبنانيين تمكنوا، في لحظة غضب، من التخلي عن التقليد بإعادة انتخاب النحس الذي يعرفونه بدل السعد الذي لا يعرفونه، لكن ذلك تجاوز بالكاد العشرة في المئة من الأصوات، وأنا متأكد، حسب التجربة، بأن المنتخبين الجدد، سيواجهون بالوقائع نفسها التي واجهت من سبقهم، ممّن هم غير براغماتين وغير مركنتيليين في الأساس. فإما أن يتوبوا عن خوض غمار السياسة بوجهها التمثيلي، أو يتوبوا عن محاولة التغيير، فينضموا إلى لائحة التجار المركنتيليين، تحت لواء البراغماتية السياسية.