IMLebanon

التعطيل القاتل

 

يكثر الحديث اليوم عن موضوع الثلث المعطِّل وقدرة التعطيل التي باتت بيد كلا الفريقين المتنازعين في لبنان. وممّا لا يخفى على أحد هو أنّ فريق الممانعة والعهد ومنظمة «حزب الله» قد دأبا على استخدام نهج التعطيل في ما اصطلحت على تسميته في مقالاتي السابقة بالديمقراطيّة التعطيليّة. فهل التعطيل حقّ دستوريٌّ؟ أم أنّه ورقة ضغط سياسيّ يستخدمها كلا الفريقين المتنازعين كحقّ النقض المستخدَم في مجلس الأمن تحت مسمّى حقّ الفيتو؟

 

صحيح أنّ النّظام اللبناني هو من طبيعة توافقيّة لأنّ المشرّع ارتضى في اتّفاق الطائف أن يجمع اللبنانيّين كلّهم حول طاولة مجلس الوزراء ليأخذوا القرارات بالتوافق، وفي حال تعذّر ذلك فبالتصويت، كما ورد في البند رقم 5 من المادّة 65 في الدّستور اللبناني المعدّلة بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990: «یجتمع مجلس الوزراء دوریاً في مقرّ خاص ویترأس رئیس الجمهوریة جلساته عندما یحضر. ویكون النصاب القانوني لانعقاده أكثریة ثلثي أعضائه، ویتخذ قراراته توافقیاً. فإذا تعذّر ذلك فبالتصویت، ویتّخذ قراراته بأكثریة الحضور. أما المواضیع الأساسیة فإنها تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدّد في مرسوم تشكیلها…».

 

لكن ما لم ينصّ عليه الدّستور من صلاحيّات تعتبرها المجموعة الحضاريّة حقّاً لها أسوة بباقي المجموعات الحضاريّة، عمل الثنائي الشيعي بقوّة سلاح منظمة «حزب الله» غير الشرعي على فرض عرف جديد في تسوية الدّوحة وهو الثلث المعطّل استناداً إلى هذه المادّة بالذات، ليتحكّم بمجلس الوزراء فيعطّله بحسب ما ورد في الدّستور. وبذلك يكون قد عمل وفق المبدأ القائل: «العرف أقوى من الدّستور». إلّا أنّ هذه المسألة أدّت إلى بروز نوع جديد من الديمقراطيّة كما ذكرنا آنفاً، لم يستطع أن ينتج مبدأ الاستمراريّة في الحكم بل نجح في التعطيل، نتيجة لتجاوز النصوص الدستوريّة على ما جرت العادة في لبنان. ولعلّ هذا ما أدّى إلى انهيار تامّ للمؤسّسات الدّستوريّة. مع العلم أنّ المخالفات الواضحة للدّستور هي التي دفعت إلى مبدأ الاجتهاد. فلو طبّق النظام أساساً لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.

 

وبحسب ما قاله غبطة البطريرك في عظته الأحد من الديمان: «من المعيب حقاً أنه منذ سنة 1988 أمسى تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان عادة، كأن المعطلين يسعون إلى إيهام اللبنانيين بأن الرئاسة الأولى منصب شرف لا ضرورة مطلقة له، فالدولة تسير بوجود رئيس أو بدونه. فهل هي المرحلة النهائية في مخطط تغيير النظام والانقلاب على الطائف وإسقاط الدولة؟ لا يظنّنَّ أحد بأن الأمر بهذه السهولة… رئاسة الجمهورية هي أساس وجود كيان لبنان ونحن بحاجة إلى رئيس يرسم حدود الدولة ليس مع الخارج فقط إنما في الداخل أيضاً».

 

هنا بيت القصيد كما قال غبطته. فالمشروع الأساسي الذي يحمله الفريق الحاكم اليوم هو تعطيل النّظام بهدف الوصول إلى إسقاطه. وقد تكون هذه هدايا العهد الأخيرة لـ»حزب الله» خدمة للمشروع الذي يحمله. ولكن الحقّ يُقال انه في 22 تشرين الأول 1989 وليلة إقرار إتفاق الطائف، وفي وقت انتقل فيه الأخضر الإبراهيمي إلى بيروت لوضع كلّ من عون والحصّ في نتائج ما تمّ التوصّل إليه في الطائف؛ وبعد انتهاء اجتماع الجنرال ميشال عون مع موفد اللجنة العربيّة، عقد عون مؤتمراً صحافيّاً أعلن فيه: «إذا كان علينا خسارة لبنان فلنخسره بمعركة مشرِّفة وليس بالتّوقيع» معتبراً «أن هذا الإتفاق (الطائف) سيقود الشعب إلى جهنّم».

 

من هنا، نستطيع الجزم بأنّ تعطيل الانتخابات الرئاسيّة سيكون الخطوة الأخيرة للإنقلاب على النّظام. لذلك، المسؤوليّة الكبرى تقع على عاتق مَن سيدفَع إلى استخدام فيتو التعطيل بعدما رفض أن يكوّن أكثريّة حقيقيّة. فلا يمكن أن يتحوّل تعطيل النّظام إلى وسيلة لممارسة هذا النّظام لأنّ ذلك سيؤدّي إلى انفراط العقد الإجتماعي. فلا يمكن للمعطِّل أن يتذرّع بالتعطيل الذي سبّبه ليفرض شروطه. فمَن يعطّل التوقيع على تشكيلة الرئيس ميقاتي، أي فخامته وفريقه السياسي، هم الذين يتحجّجون بالتعطيل لاجتراح الاجتهادات الدّستوريّة. وهذا أمر لا يجوز.

 

وبالتّالي هذا ما سيعطي الذريعة المحقّة للفريق المواجِه باستخدام حقّ التّعطيل هو أيضاً. وهذا ما سيؤدّي إلى ما يريده فريق الممانعة. فبرغمِ أنّ الدستور لم ينصّ حرفيّاً وبشكل واضحٍ على تحوّل التعطيل إلى حقّ دستوريّ إلا أنّ ذلك قد بات أمراً واقعاً بالممارسة التي نجح بفرضها فريق الثامن من آذار منذ العام 2008 وحتّى اليوم.

 

لكن إيماننا أكبر بكثير من شرّهم كلّهم، ومن الشياطين التي تصوغ فذلكاتهم الدّستوريّة. فكما قال غبطة البطريرك الراعي من الدّيمان منذ ثلاثة أيّام: «بالنسبة إلينا يبقى إيماننا ثابتاً وراسخاً بأنّ الله هو سيّدُ التاريخ، لا النّافذين. وهو يتدخّلُ ساعة يشاء وكيفما يشاء». فهل يتجرّع طبّاخ سمّ التعطيل سمّه في الانتخابات الرئاسيّة؟ أم أنّ ذلك إن حصل سيوصله إلى هدفه بفرط النّظام؟