IMLebanon

البحث عن رئيس منقذ بدل الفراغ الرئاسي

 

في الوقت الذي يغرق فيه اللبنانيون في غياهب الظلمة، وينوء فيه معظمهم تحت تداعيات الازمة الاقتصادية والمعيشية، في ظل الحركة المتفلّتة لارتفاع الدولار، وما يتبعها من ارتفاع لكل اسعار الضروريات الحياتية، تستمر المناقشات السياسية العقيمة بين اقطاب السياسة، حيث يجهد كل منهم ان لعرض رؤيته واقتراح مخارجه لاجتياز جميع الحواجز والعقبات التي يمكن ان تعطل الاستحقاق الرئاسي المقبل، لكن لم يقدِّم اي منهم في طروحاته اية مبادرة لمنع حصول فراغ في سدة الرئاسة، بل وعلى العكس فإن الجميع بات ينطلق من مسلَّمة بأن الفراغ الدستوري حاصل لا محالة.

 

يبدأ العقم السياسي ويتعمق مع استمرار فشل رئيس الجمهورية والرئيس المكلف في ايجاد تشكيلة حكومية قادرة على قيادة المسيرة سواء لجهة معالجة شؤون مؤسسات الدولة التي انهارت جمعيها باستثاء الجيش وجزء من المؤسسات الامنية او لجهة استكمال الخطوات اللازمة للتوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، تمهيداً لتأمين تحقيق بعض التدفقات المالية من خلال القروض التي سيؤمنها الصندوق، بالاضافة الى اعادة تأهيل الدولة لتلقي جزء من المساعدات الدولية والعربية الموعودة.

رغم ادراك عون وميقاتي لأهمية تشكيل حكومة من اجل تأمين وجود حكومة فاعلة قادرة على مواكبة الاستحقاق الرئاسي، وتحضير افضل الظروف لاستكماله بانتخاب رئيس جديد، او في حال التعثر والفشل تأمين استمرارية الحكم بفعالية من خلال تولي الحكومة لصلاحيات رئيس الدولة وفق ما ينص عليه الدستور، فانهما عاجزان عن اجراء حوار بنَّاء يقدِّمان من خلاله التنازلات المتبادلة، اللازمة لحصول تفاهم على شكل الحكومة وتوزيع الحقائب بين القوى السياسية، وتسمية الوزراء. ويدرك الجميع بأن هذا الامر ليس بالعسير او المعقد، ولا يتطلب تحقيقه اشهراً او افتعال المعجزات، بل يمكن انجاز ذلك خلال ساعات معدودة اذا ما تحلى الطرفان بالواقعية السياسية وبحسن النية.

المؤسف ان هذه الازمة لتشكيل حكومة تأتي بعد اجراء انتخابات نيابية عامة، ومن المفترض ان يأخذ تشكيل الحكومة العتيدة رأس سلّم الاهتمامات السياسية لجميع الاحزاب والكتل اللبنانية الممثلة في البرلمان الجديد. ولكن وعلى عكس ما هو متوقع من اهتمام فإن مختلف الكتل والاحزاب تركز اهتماماتها اليومية وخطابها السياسي من اجل شد عصب محازبيها واتباعها من جهة، وفي محاولة واضحة لإلغاء او ادانة مواقف خصومها. هذا ما سمعناه وشاهدناه في كل المشاهد السياسية المتنقلة من صور الى بيروت الى معراب، وما يمكن ان نتوقع ان نسمعه في المؤتمر الصحافي «الموعود» لرئيس التيار الوطني الحر.

لم يبدِ اي تشكيل سياسي او تكتل نيابي الاهتمام اللازم للضغط على رئيسي الجمهورية والحكومة لتقديم التنازلات اللازمة. وبما يسهل تشكيل حكومة، بينما يستمر النقاش حول الاستحقاق الرئاسي، دون القيام بأي حوار مع الكتل والاطراف الاخرى، بحثاً عن مرشح لموقع الرئاسة يملك القدرات اللازمة لتحقيق تفاهم وطني للخروج من «ازمة النظام» التي يواجهها لبنان منذ بداية عهد الرئيس ميشال عون، والذي فشل في لعب دور الحاكم والحكم تجاه مختلف الافرقاء والقوى.

يتخبط فقهاء السياسة في لبنان في مقارباتهم للاستحقاق الرئاسي، وهم في نهاية المطاف اشبه ما يمكن نعتهم بـ«تجار الهيكل»، حيث يسعى كل منهم لتسويق نفسه بصورة مباشرة او غير مباشرة على انه هو المرشح الانسب ليكون في موقع الرئيس المنقذ.

يبدو أنهم في ما هم يرمون اليه ابعد الناس عن التحلي بمواصفات رجال الدولة، الذين يتحدث عنهم الرئيس صائب سلام في مذكراته حول اسرار الانتخابات الرئاسية. ويتناسى هؤلاء المتطفلون على موقع الرئاسة بأن ازدواية خطابهم السياسي لن تفيدهم ولن تحقق غاياتهم، ولكنها ستنزل المزيد من الاضرار في جسمي المجتمع والدولة. لقد سبق للرئيس سليم الحص ان تحدث عن مضار ازدواجية الخطاب السياسي في محاضرة في الجامعة الاميركية قبل ثلاثة عقود حيث قال:«اننا ابتلينا بالازدواجية السياسية بحيث اننا بتنا نقول ما لا نضمر، ونضمر ما لا نقول».

كان من الطبيعي ان يثير هذا الخطاب السياسي «السخيف والمنافق» حفيظة سفير المملكة العربية السعودية وليد بخاري ويدفعه الى التنبيه عبر تغريدة ترسم الخطوط الحمراء «لتجار الهيكل»، حيث ذكَّرهم بأن الطائف قد جاء نتيجة جهود قوى دولية وعربية، وبأنه قد كتب بلغة عربية فصحى، بحيث يمكن للجميع قراءته وفهم مضمونه واهدافه. ولم تكن صدفة ان يلاقيه البطريرك بشارة الراعي بتصريحه بأن «تعمّد الشغور الرئاسي خيانة بحق لبنان، وانتخاب رئيس جديد هو المطلب الاوحد».

يؤشر المخاض السياسي العام في البلد منذ بداية عهد عون الى وجود نوايا لدى عدد من الافرقاء من السياسيين وبعض النخب المسيحية ممن يفكرون ويعملون سراً وعلناً من اجل الانقلاب على صيغة لبنان الكبير، وعلى صيغة التوافق الوطني التي ارساها وصانها «الآباء المؤسسون» لدولة الاستقلال، وايضاً على صيغة نظام الطائف. في هذا السياق يمكن ان نذكر الاحزاب التي لا تؤمن بلبنان منذ تأسيسه وهي تعمل علناً لاستبداله بأوطان قومية كبرى. ويأتي في نفس السياق المشروع الذي يعمل له مذهبياً واقليمياً «حزب الله» والذي يربط لبنان بخيارات الجمهورية الاسلامية، وولاية الفقيه، في كل خياراتها ومشاريعها الاقليمية والدولية.

والمؤسف انه في الجانب الآخر فإننا نرى نشوء تيارات تشكك بصيغة الطائف وبجمهورية لبنان الكبير الموحدة، وتدعو لاقامة كيان سياسي فيدرالي، وبالتالي العودة الى التقوقع ضمن نظام الاقطاعيات الطائفية والعائلية في جبل لبنان، وبعض المناطق الشمالية، مع توجه واضح الى ترك الجنوب والبقاع الشمالي ليأخذا خياراتهما الخاصة. هذا الكلام ليس من باب التجنّي على احد او من باب التخوين الذي اعتاد اللبنانيون رمي بعضهم ببعض به، مع الدعوة من حين لآخر لفحص DNA في الوطنية.

واقول هذا بعدما سمعت حلقات من التنظير على وسائل اعلام احزاب تدّعي انها سيادية ومتمسكة بصيغة الوطن الموحد والوفاق الوطني، حول ضرورة الاعتراف بسقوط صيغة الطائف ولبنان الشراكة واستبدالها بصيغة فيدرالية تضم مجموعة من الكيانات من اقضية جبل لبنان واقضية الشمال، وما يسمونه «لبنان المحرر» من الاحتلالات والتبعية الايرانية.

انني ببشاعة وصراحة اكتب هذا الكلام لأني اجد اننا قد بلغنا مرحلة من الانهيار والاستهتار بمصير الوطن ومستقبله، مع التشديد على دعوة جميع الافرقاء المشككين بالوطن وبصيغة العيش المشترك وبالتفاهم الوطني الذي ارسى أسسه أباء الاستقلال، الى العودة الى رشدهم ووقف عمليات التشكيك بالوطن الموحّد، وبنظام الطائف، مع ضرورة العودة لإجراء قراءة متمعنة لدستور الطائف وتطوير صيغته وبما يؤدي الى اقامة دولة المواطن (غير الطائفية)، حيث يتساوى الجميع امام الدستور والقانون. اننا بأمسّ الحاجة لتلاقي كل القيادات السياسية للبحث جدياً عن رئيس منقذ للبنان، بدل البحث عن فراغ جديد في سدة الرئاسة.