IMLebanon

الإستحقاق الرئاسي أكبر من الحسابات المحلية

رسالة دير الزور الأميركية كانت بليغة وقوية انسجاماً مع ما أرادت واشنطن توجيهه الى دمشق وطهران في آن معاً. التبرير الذي أرفقته حول خطأ حصل كان مدعاة للسخرية، فلا يمكن للخطأ أن يحصل ويستمر لمدة 50 دقيقة. أرادت واشنطن القول إنّ قرار وقف إطلاق النار يجب أن يصمد وإنه لا بدّ من تعبيد الطريق أمام التسوية السياسية ولا مجال للعودة الى الوراء وإلّا…

الرسالة الأميركية القاسية جاءت عقب المؤشرات الإيرانية الكثيرة التي رافقت وتلت الاتفاق الأميركي – الروسي بأنّ المحور السوري – الإيراني يعترض على بعض بنود الاتفاق وعلى التوقيت الذي صدر فيه.

فدمشق منزعجة جداً خصوصاً من البند المتعلق بالحظر الجوّي الذي طاول بعض المناطق والذي يحرم فيه الجيش السوري من عمليات قصف جوي ما يُقدّم حماية ممتازة للمجموعات المعارضة للأسد، إضافة الى وجود نصائح روسية بعدم التفكير في اقتحام شرق حلب. طهران بدورها لا تبدو راضية عن التوازنات التي يرسيها الاتفاق وعن التوقيت الذي يصادف نهاية عهد أميركي وفي خضم المعركة الرئاسية قبل اسابيع معدودة على فتح أقلام الاقتراع.

فالبيت الابيض يريد اتفاقاً يستثمره في التنافس الحاد الحاصل لصالح الديموقراطيين كما نجح الرئيس الروسي في استثمار دور بلاده في سوريا في الشارع الروسي، وهو ما ترجم في الانتخابات التشريعية، فيما تريد إيران التعامل وإنجاز التسوية مع الرئيس المقبل بعد انكشاف هويته. طهران تفضل ربما وصول دونالد ترامب ما سيعني فرض واقع جديد يؤدي إلى تقارب أقوى مع روسيا والصين ويُعزّز أوراقها الإقليمية اكثر بفعل الحاجة الصينية- الروسية إلى دورها لصدّ الجموح الأميركي الذي سيرافق وصول ترامب.

لذلك جاءت الرسالة الأميركية القاسية، لا بل العنيفة، لتؤشر الى الحشرة التي يعاني منها البيت الابيض والى وجود قرار نهائي وكبير بعدم عرقلة الاتفاق الأميركي – الروسي.

وليس واقعياً اختصار الاتفاق بقرار وقف اطلاق النار خصوصاً أنّ الاجتماعات بين وزيرَي الخارجية الأميركي والروسي لإنجاز الاتفاق تطلبت فترة زمنية قياسية. هناك الصيغة السياسية التي ترتكز على تقاسم السلطة وفق روحية اتفاق «الطائف» اللبناني، وهناك تقسيم مناطق النفوذ على الارض ومن خلالها شروط إزالة «داعش»، وبالتأكيد تحديد مصالح ونفوذ تركيا والأكراد والقوى الأخرى.

يوم الخميس في الثامن من ايلول الماضي، زار رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني باريس، حيث أجرى محادثات مهمة مع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند حضرها وزير الخارجية الفرنسية جان مارك ايرولت. وتنقل أوساط ديبلوماسية أوروبية أنّ البرزاني تحدّث مطوَّلاً عن الموصل والظروف الميدانية والسياسية المحيطة به، مختتماً أنّ الأكراد لن يشاركوا في هذه المعركة قبل إنجاز تفاهمات تضمن مصالحهم مستقبلاً.

وأبدى تمسّكه بوجوب حماية التنوّع الطائفي شمال العراق من خلال حماية الأقليات الطائفية وإشعارها بالأمان لكي تستطيع العودة الى نينوى ولا سيما الأقليات الايزيدية والمسيحية.

كان واضحاً للرئيس الفرنسي أنّ الأكراد حسموا أمرهم بعدم المشاركة في معركة تحرير الموصل من دون ضمان مكاسب كردية طابعها استراتيجي.

البرزاني الذي زار بعدها نائب وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن والذي كان موجوداً في باريس، ردّد امامه وجهة النظر الكردية نفسها، لكنّ رد المسؤول الأميركي جاء أوضح حين عكس القرار الصادر عن بلاده والتعليمات التي تتلخص بالآتي: «يجب استعادة الموصل سريعاً وقبل نهاية شهر تشرين الاول المقبل».

والواضح أنّ واشنطن تتمسك بالحصول على إنجازات ميدانية تسمح باستثمارها في المعركة الرئاسية التي تشهد منافسة حامية. يريد الديموقراطيون عناوين في الحملات الانتخابية تشير الى انتصارات على «داعش»، في وقت تحركت خلايا «داعش» داخل الولايات المتحدة الأميركية بهدف تأمين الفوز لخيار ترامب على أمل أن تزيد سياسته من منسوب الفوضى في الشرق الأوسط، وهو ما يعتبر البيئة المثالية لاستمرار «داعش» ونموّه.

وإذا كان الجوّ الإقليمي ملبّداً ودقيقاً وخطيراً الى هذا الحدّ، هل من الممكن الاعتقاد بأنّ إحداث خرق سياسي على مستوى رئاسة الجمهورية مسالة واقعية؟

خلال المرحلة الأخيرة، بدا واضحاً أنّ الرئيس سعد الحريري الذي أجرى جولات متلاحقة من المباحثات السرّية مع الوزير جبران باسيل بات جاهزاً للسير في خيار العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وخلال شهر تموز الماضي حقّقت هذه المباحثات تقدماً كبيراً واشترك في جانب منها السفير السعودي السابق في لبنان علي عواض عسيري، وفتح نادر الحريري محادثاتٍ سرّية مع حسين خليل مساعد الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله حول وصول عون والضمانات التي يطلبها الحريري.

كلّ هذه الورشة اصطدمت بالرفض السعودي والذي تُرجم لاحقاً بما يشبه إقالة عسيري من موقعه في لبنان. يومها تيقّن الجميع أنّ الحريري المحاصر لا بل المختنق بفعل أزمته المالية وأزماته السياسية وحالات التمرد على زعامته، بات مندفعاً في اتجاه خيار عون.

وبعد نكسة آب والمتمثلة في عدم تجاوب السعودية، عاود الحريري تواصله السرّي مع عون ونقل عن الحريري قوله للحلقة الضيّقة القريبة منه إنّ عون ضمن له صيغة حكم تقوم على المشاركة لا المشاكسة وعلى التعاون لا التقاتل. وتسلّح الحريري بنصيحة رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي قال له: أنا وأنت نستطيع التحكم بمجلس الوزراء حيث القرار الفعلي والإدارة الفعلية للبلد.

انطلق الحريري في اتجاه الرياض لنيل بركة الملك. يُقال إنّ الحريري ينتظر اجتماعاً مع العاهل السعودي بين ساعة وأخرى لانتزاع موافقته، فيما تروي مصادر أخرى أنّ اللقاء المتوقع سيحصل ولكن مع وليّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وستكون الطبق الأساس فيه أزمة «سعودي أوجيه». لكنّ أوساطاً ديبلوماسية ترى تبسيطاً كبيراً للصورة السياسية.

فإيران اشتبكت مع السعودية عن سابق تصوُّر وتصميم وتخطيط ووفق عناوين شديدة الحساسية وسريعة الاشتعال تتّصل بالدين والعقيدة. الاشتباك له علاقة بالنّية الإقليمية لتصعيد الموقف وإجهاض الاتفاق الكبير حول سوريا. اشتباك رافقه إطلاق صاروخ باليستي الى الداخل السعودي، فهل يُعقل وسط هذا التوتر الخطير الموافقة على تسوية في لبنان؟ وعلى افتراض أنّ السعودية ستدخل لسبب ما في تسوية جانبية حول لبنان، فهل إنّ ذلك سيحصل من خلال الحريري أم من خلال جهة دولية كبرى هي الولايات المتحدة الأميركية؟

أضف الى ذلك أنّ حقيقة المسألة لم تعد محصورة باستحقاق رئاسي فقط بل بسلّة تفاهمات دقيقة تطاول كامل الصورة لاحقاً، كما أعلن الرئيس نبيه برّي مباشرة وربما باسم «حزب الله» هذه المرة ولو من دون الإعلان عن ذلك.

فقد سبق لـ»حزب الله» أن أبلغ نادر الحريري معارضة الحزب إطلاق يد «المستقبل» في الملف الاقتصادي، كذلك لا يبدو «حزب الله» موافقاً على اتفاق قيل إنه حصل بين عون وجعجع على إسناد وزارة الداخلية الى النائب ستريدا جعجع. كما أنّ «حزب الله» يريد قانون انتخابات جديد يقوم على النسبية الى جانب التفاهم على الرئاسة.

عقد كبيرة لا يمكن حلّها إلّا من خلال إرادة دولية كبيرة يبدو أنها غارقة في الملف السوري الصعب والمعقد، ما يعني أنّ على لبنان الانتظار وربما التحضير للانتخابات النيابية لا الرئاسية.