IMLebanon

حظر الموت

قبل 20 عاماً صفّقت الامم المتحدة لإقرار اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية. وكانت نصّت على اعتبار التاسع والعشرين من نيسان من كل عام موعداً يتجدد لإحياء ذكرى جميع ضحايا الحروب الكيميائية. فماذا بعد؟ وماذا عن الحصيلة،والنتائج، وعدّادات الموت المفتوحة؟..

مزيد من الإجرام. مزيد من المجازر، من الضحايا، من الأطفال، من الأبرياء. مجازر في سوريا، في خان شيخون، في الغوطة، في حلب، في إدلب، في دير الزور..وناجون لاجئون في لبنان وفي الدول العربية وفي شتات الأرض يتذكرون ولا ينسون. يخبرون عن ذلك الصراع العقيم بين التقاط الأنفاس وتقطعها، بين النجاة من «السارين» والموت على أيدي الطغاة، بين فقدان الأحبّة وعائلات تنازع وتختنق وتدفن في مقابر جماعية. مقابر ما عاد بالإمكان التعرف الى مواقعها وهويات قاطنيها لكثرتها ولكثرة الدمار الذي بعثر في الأمكنة.

ومزيد من الكلام الذي يطفو على سطح المجتمع الدولي العالق بين خطوة للأمام وخطوات للخلف. مجتمع متمترس خلف كلام على القافية: «لابد من مواكبة الجهود المبذولة لكسب التزام عالمي بالاتفاقية». وما بين الخطوتين الأب السوري المنكوب بعائلته يخاف على توأمه في جنازتهما من ضربة شمس. تراه يطلب تبديل مطارحهما الى فيء الظلال في لحظاته الاخيرة معهما قبل أن يرجع الى الحارات الخاوية وذكرى عائلة كانت تملأ الدنيا بالصخب والحياة.

هناك في الأرض السورية، وفي الثرى الذي يفيض شهداء وأنهار دماء، دُفن المئات من الاطفال والنساء والعائلات التي اختارت الصمود في أرضها..ثمّ بعد كل سنوات النضال والتنديد والحظر وتسليم جائزة نوبل للقيمين على الحظر الكيميائي، ما زال الإجرام طليقاً يرتدي زي الشرعية ويقصف بالبراميل ويهدد ويتوعد، والحصيلة عوارض متشابهة لم تلق من ينقذها من رائحة الحريق المتفشي ومن أعراض الدوران ومن انتفاخ الأجساد ورجفاتها ورغوة الشفاه وتلك الارتعاشة الأخيرة قبل النهايات بقليل.

وإنه المجتمع الدولي، ما زال عاجزاً عن الحظر، ليس في الاسلحة وأدوات الموت، وإنما في تحصين الطفولة من ويلات الحروب، وفي مصارعة الآثار اللاإنسانية والعشوائية، فبعد مرور مائة عام على استخدام غاز الكلور كسلاح حربي للمرة الأولى، وبعد الانتهاكات الجسيمة لبروتوكول 1925 وقواعد القانون الدولي العرفي، لا تزال مثل تلك الأسلحة متوافرة تهدد وتزهق الارواح وتشتت الدول، ولا تزال الحكايات تتشابه وتتواتر، كأنها حصلت في الصباح الباكر حين التقط الصبي المنكوب أنفاسه وحكى: «كنا في البيت. سمعنا الضجيج وارتطام الصواريخ، ثم بدأ الجميع بالصراخ. وعندما هربنا، كنا نتساقط أشلاء، نفقد الاحساس بأجسادنا، وقد أصبحنا على الارض. الاولاد كانوا يلفظون أنفاسهم. أحسسنا بالدوار، الرائحة كانت ثقيلة جداً، كانت تشبه رائحة احتراق الاجساد وتفحمها، ثم بدأت الشفاه تنتفخ وترتجف، والعيون ترتجف، انعدمت الرؤية، صارت الوجوه صفراء، الجميع مرمي على الارض، حتى قوانين الحظر..كلها دخلت في كوما الكلور والسارين ومشتقاتهما..

وإنهم الأبرياء، لا يعرفون من أين يتلقفون الموت. هم لا يفقهون في الاتفاقيات والحظر والانتهاكات وأيام تنفع لإحياء الذكرى، وجلّ أحلامهم الركض في البراري الخضراء، لا الركض بين أكوام الجثث من أمهات وآباء وأخوة ورفاق وأحبّة..

إنه التاسع والعشرون من نيسان، وما الذي تغيّر، طالما أن عدّاد الموت يركض ويسجّل ويسأل: هل من مزيد؟.