IMLebanon

مناعة “الشراء العام” تخور أمام فقدان الإجماع السياسي

 

لقّح” بمضادات التعطيل ويعوّل عليه لـ”جرّ” عشرات القوانين الإصلاحية المجمّدة ومجابهة “المتحوّرة

 

 

تتطاير بين الحين والآخر من تحت “رماد” الفساد “شرارات” إصلاحية؛ كل ما تحتاجه لفحة هواء مشبّعة بـ”أوكسجين” القدرة على التنفيذ، لتتحول إلى حريق يقضي على “خشب” السيطرة على مقدرات الدولة. قانون الشراء العام الذي صوت عليه البرلمان في 30 حزيران من هذا العام، واحد من أهم هذه القوانين. فهل تُطفئ الخلافات السياسية والمصالح الشخصية “شرارته” وتُلحِقه بقانون 462/2002 لتنظيم قطاع الكهرباء… وغيره الكثير من القوانين المعلقة، أم “تزكيه” في “هشيم” الوطن؟

 

يشكل قانون الشراء العام “مدماكاً” صلباً يعول عليه في مرحلة النهوض. وهو يعتبر مطلباً أساسياً للمجتمع الدولي منذ العام 2018 لمساعدة لبنان. فالفساد المستشري، و”تركيب” الجهات الرسمية من وزارات ومجالس وبلديات “أذن جرة” الصفقات مثلما يشتهون، وتخطيهم لإدارة المناقصات… عطلت المساعدات، وربطتها باقرار القوانين الإصلاحية. فأضيف على قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) المقر في العام 2017، قانون “مكافحة الفساد في القطاع العام” وإنشاء “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” في العام 2020. وأقرّ مؤخراً قانون الشراء العام. ولم يعد ناقصاً إلا إقرار قانون إستقلالية القضاء لتكتمل عناصر الإصلاح.

 

على الورق فقط

 

المشكلة أن القوانين الإصلاحية المقرة منذ العام 2002 لم تنعكس تغييراً على أرض الواقع. فالقانون 462/2002 لتنظيم قطاع الكهرباء مجمد. ومثله القانون 432 المتعلق بتنظيم قطاع الإتصالات، الذي يقتصر وجوده اليوم على 30 موظفاً يتقاضون رواتب من دون وجود هيئة. وعلى شاكلتهما قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص (2017) الذي لم يُحترم في مشاريع “هوا عكار” ولا في “دير عمار2”. كما أنه لم يُصَرْ بعد إلى تعيين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. الأمر الذي يثير المخاوف من ملاقاة قانون الشراء العام المصير نفسه، على الرغم من أهميته الكبيرة. حيث تكفي الإشارة إلى أن إعتماد هذا القانون يحقق “وفراً سنوياً بقيمة 500 مليون دولار”، بحسب “معهد باسل فليحان المالي والإقتصادي”. و”يسمح بتوسيع هامش الإنفاق الإستثماري، ويحسن نوعية الخدمات المقدمة للمواطنين، وفرص مشاركة القطاع الخاص، والثقة بالدولة”. ومما يزيد من أهمية بدء التطبيق الفوري لهذا القانون هو الجودة المتدنّية لمنظومة الشراء العام، المقدرة بـ 48/100 وفقاً لموجز إصلاح الشراء العام في لبنان الصادر عن “المعهد”، وتنامي حجم الشراء العام إلى 20 في المئة من مجمل نفقات للدولة (من دون تضمين شراء المؤسسات العامة والبلديات واتحاداتها). وعليه فان الشراء العام وحده يكلف الدولة اللبنانية سنوياً 5.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يقارب حوالى 4.3 مليارات دولار أميركي بحسب سعر الصرف القديم. من هنا فان الأولوية المطلقة هي لتطبيق المبادئ التي قام عليها القانون، وفي مقدّمها: إلزام كل الجهات الشارية وأي شخص من اشخاص القانون العام ينفق مالاً عاماً، بتمويل من الموازنة او الخزينة او من هبات وقروض باحكام القانون، وشموله كل انواع المشتريات العامة أي تنفيذ الاشغال، وتوريد اللوازم وتقديم الخدمات بما فيها الخدمات الاستشارية داخلية او خارجية، بما لا يخالف احكام المعاهدات والإتفاقات الدولية المبرمة اصولاً من الدولة اللبنانية. هذا بالطبع إلى جانب إنشاء المنصة الموحدة للعرض والنشر والإطلاع وفقاً لأحكام الشفافية والحوكمة الرشيدة.

 

عصيٌ نسبياً عن التعطيل

 

العقبة الوحيدة التي قد تعيق تطبيق قانون الشراء العام ووضعه موضع التنفيذ بعد اكتمال الأمور التقنية المحددة بسنة على أبعد تقدير، ترتبط بالقدرة على خلق مناخ إصلاحي عام واتفاق سياسي جامع. عدا ذلك فان “البنود التي تضمنها القانون تجعله عصياً نسبياً عن التعطيل”، يقول مقدم إقتراح القانون، ورئيس اللجنة التي درسته النائب ياسين جابر. فـ”لتلافي التأخير أو المماطلة في التعيينات وصدور المراسيم التطبيقية بسبب غياب الحكومة أو غيرها من الأسباب، نص القانون في الاحكام الانتقالية على ملء الفراغ بواسطة إدارة المناقصات التي يصبح مديرها العام رئيساً للهيئة. أما في ما خص المراسيم التنظيمية، فنص القانون على بقاء كل المراسيم القائمة التي ترعى عملية المناقصات نافذة كما هي إلى حين صدور مراسيم بديلة. وبالتالي فان هاتين الآليتين تشكلان ضمانة لمنع التعطيل. أما في ما خص الطعن بآلية التعيينات الذي هدد به تكتل لبنان القوي، فيرى جابر أن “آلية التعيين تتم من خلال إعلان مجلس الخدمة المدنية عن حاجاته للكفاءات المطلوبة، ويتلقى الطلبات من المرشحين، ليصار من بعدها إلى دراسة هذه الطلبات من قبل لجنة مؤلفة من رئيس مجلس الخدمة ورئيس التفتيش المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وترفع إلى مقام مجلس الوزراء سلة الأسماء المستوفية للشروط والمواصفات، لكي ينتقي منها العدد المطلوب”.

 

ضرورة القوانين الإصلاحية

 

هذه الآلية التي تشبه المعتمد في تعيين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، تثير حفيظة النواب العونيين في “المشتريات” وموافقتهم في “مكافحة الفساد”. حيث لم يتوانَ بعضهم إلى الطلب صراحة بامكانية تضمين القانون السماح للوزراء باضافة أسماء لهيئة الشراء العام، بما يخالف أبسط قواعد آلية التعيين. وقبلها اشتراط نواب التيار نفسه بان تكون الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء إستشارية، وإلا لن تبصر النور. هذا التمادي في تفريغ القوانين الإصلاحية من مضمونها قد يكون خطيراً جداً، خصوصاً للمرحلة المقبلة. فـ”الدولة لن يكون بامكانها بعد اليوم الإنفاق العام على المشاريع والمشتريات”، من وجهة نظر جابر، وستضطر إلى العمل على قاعدتين تتطلبان أقصى درجات الشفافية: الأولى، عبر الشركات الأجنبية الممولة بقروض دولية. والثانية عبر مشاريع الشراكة و BOT، وفي الحالتين لن يرضى أحد بوضع “يده” تحت “بلاطة” الدولة إن لم تكن هناك قوانين شفافة وواضحة وبمعايير عالمية.

 

الشفافية مؤمنة

 

إنتقاد القانون من قبل البعض لعدم ذكره حق الوصول إلى المعلومات، يقابله وجود قانون مقر سابقاً يمكّن المواطنین والجمعیات والصحافیین من الوصول الى مصادر المعلومات، والزام الادارات العامة بالعلنیة في كل انشطتھا وقراراتھا. أكثر من ذلك، فان “قانون الشراء العام ذهب أبعد من ضمان حق الوصول إلى المعلومات، إلى الفرض على الجهات الرسمية الإعلان عبر المنصة ونشر النتائج تحت طائلة إلغاء المناقصة”، بحسب جابر. كما تمت معالجة التفرد في صفقات الشراء العام لكل إدارة وحصر المشتريات المتشابهة لزوم المؤسسات بصفقة واحدة، مما يخفض الكلفة ويحقق وفراً، ويوحد المعايير”.

 

الجهود المبذولة لإقرار القوانين الإصلاحية، ستقوض ما لم تترافق مع وعي كاف من قبل المسؤولين والتسليم بانه لم يعد هناك شيء ليسرقوه. وبأنه آن الأوان لتغيير العادات القديمة والخروج من دائرة الفساد إلى رحاب الشفافية والتأسيس لدولة ديموقراطية… إنقاذاً لما تبقى من لبنان.