IMLebanon

حلول رفيق الحريري للأزمة

 

بعيد ترؤسه الحكومة اللبنانية للمرة الأولى (خريف العام 1992 )، قدم رفيق الحريري مشروعاً إصلاحياً يشمل تنقية القطاع العام تحت عنوان “التطهير الإداري”، إلى البرلمان اللبناني (صيف العام 1993 ) لمكافحة الفساد في الإدارة، فقوبل بمعارضة من العديد من القوى السياسية الحليفة لسوريا، بحجة أنه يستبطن حصوله على صلاحيات استثنائية كانت مرفوضة في حينها من قبل الطبقة الحاكمة ودمشق. إعتكف الرجل في منزله، وقرر ضمناً مغادرة لبنان وصرف النظر عن مشروعه لإعادة الإعمار. حضر وفد سوري رفيع قوامه رئيس الأركان الراحل حكمت الشهابي ووزير الخارجية عبد الحليم خدام لحل الأزمة وإيجاد المخارج. كان هدف خفض كلفة القطاع العام خطاً أحمر عند السياسيين الذين يقوم جزء من نفوذهم على حشوه بالموظفين لكسب الولاء.

 

مع تقدم إعمار ما تهدم جراء الحرب الأهلية، وتجديد البنى التحتية في المناطق كافة من خلال مشاريعه الطموحة، واجهت الحريري عقبات داخلية لا تحصى. فهو كما كان يقول: “إننا لم نخترع كل المشاريع فمعظمها كان في الأدراج. نفضنا الغبار عنها وجددنا فيها وأطلقناها”. واجه الرجل قلقاً من الطبقة السياسية التي جاء متبرئاً من أساليبها. اتُّهم بأنه يكثر من المشاريع للبقاء في الحكم وإنهاء الزعامات التقليدية، فكان يرد بالقول: “إذا كنتم تريدون ذهاب الحريري في سرعة أتركوه يعمل ولا تعرقلوا مشاريعه فينتهي من الإعمار بسرعة ومعه دوره، فيغادر”. لكن الريبة لم تقتصر على الطبقة السياسية. فدمشق كانت تخشى تعاظم دوره، وخططه لتقوية الدولة اللبنانية، وقواها الأمنية، وتأسيس اقتصاد متين يسهّل الاستغناء عن المساعدة الأمنية التي بقيت تحت شعارها القوات السورية في البلد، وتحفظت على علاقاته العربية والدولية التي رفعت الحظر عن لبنان ثم انبهرت بنهوضه السريع، على رغم توظيفه إياها من أجل لبنان وسوريا أحياناً. وقفت القيادة السورية مع حلفائها اللبنانيين وراء الحملات عليه، إلى درجة منعه من مباشرة استكشاف النفط والغاز في البحر العام 93. وتجاذبت حوله مراكز القرار السوري، لا سيما بعد بدء التحضير لخلافة بشار الأسد والده. وساهمت المخابرات في الترويج لاتهامه بـ”أسلمة” البلد، (واجهها بحوار مع الرهبنة فتوطدت علاقته بها) وبـ”اقتلاع الشيعة” من الضاحية لطرحه مشروع “أليسار”، لإعمار ساحل جنوب العاصمة وإسكان لائق للمهجرين المحتلين للشاطئ (بموازاة مشروع لينور لساحل الشمال الشرقي لبيروت). والآن بات المشروعان مطلبين، شيعي ومسيحي، بعد إفشال تحقيقهما…

 

ركب الحريري السباق بين تأهيل البلد لدور اقتصادي رائد، وبين خطوات التقدم في عملية السلام التي انطلقت في مؤتمر مدريد (1991 ) بمشاركة سورية (وزير الخارجية فاروق الشرع)، والذي تلاه اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل (1993 ) ثم اتفاق إسرائيل والأردن (1994 ). تنبه العام 95 – 96 إلى أن ملاءمة الاستثمار في بناء الاقتصاد، مع خريطة جديدة للمنطقة يجب أن تأخذ في الاعتبار تراجع فرص السلام، بعد أن كانت دمشق انخرطت في التفاوض عليه وفي التأقلم مع هذه الفرص بمشاريعها. تعززت هذه القناعة بعد حربي إسرائيل على لبنان العام 93 ثم 96 (عناقيد الغضب التي انتهت بتفاهم نيسان). العوامل الداخلية الحاضرة الآن مشابهة. لكن الحريري الأب قدم ضمانة لمصرف لبنان بماله الخاص (مليار دولار) لتفادي عدم صرف رواتب الموظفين. الدين بلغ 13 مليار دولار، فبدأ إجراءات توافقية لخفضه عبر لجنة وزارية من ممثلين عنه ورئيسي الجمهورية والمجلس الراحل الياس الهراوي ونبيه بري، إنتهت إلى العناوين ذاتها المطروحة اليوم. وعد بها في مؤتمرات باريس 1و2 و3، فعرقلها حلفاء دمشق وقوى الممانعة، لمصلحة استنزاف المالية العامة.

 

لم ينفع قرار رفيق الحريري منذ التسعينات بالتعايش مع التدخل السوري المباشر، ومع التأزم الإقليمي بفعل عدوانية إسرائيل، لإكمال أحلامه بتمتين اقتصاد لبنان. حتى مرونته وفضيلة الاعتراف بخطأ بعض سياساته، كما فعل سعد الحريري أمس في كتيّب “السياسات الحريرية ومسلسل التعطيل”، لم تنفع. إنه زمن الإنكار.