IMLebanon

رفيق الحريري دفع الثمن بالدم…

 

أرقام وحقائق: أعاد إعمار البلد وحقّق ما عجز عنه الآخرون

 

شهد تاريخ لبنان الحديث منذ مرحلة اتفاق الطائف وحتى اليوم، حالة استثنائية أجمع مؤيدوها ومحاربوها على دورها في تغيير صورة لبنان وإطلاق عجلته الاقتصادية بعد سنوات عجاف وضعته على حافة الانهيار.

من رحم إعادة الثقة بالاقتصاد وإعمار البنية التحتية مروراً بالتعليم والصحة وصولاً إلى النهضة الاجتماعية وتكوين الطبقة الوسطى، وُلدت الحريرية السياسية والاقتصادية، وعلى مرّ 27 عاماً، كانت وما زالت محطّ أنظار الجهات السياسية والاقتصادية، وتحت مجهر النقاد والمشككين.

 

الحاجة إلى رجل بحجم وطن

 

وضعت المؤشرات الاقتصادية السلبية، نتيجة الحروب التي استمرت 25 عاماً، لبنان في حاجة ماسة إلى رجل بحجم وطن قادر على تحويل اقتصاد مدمّر إلى اقتصاد متنام يعيد للبنان ثقته وازدهاره، بعدما قدّر البنك الدولي إجمالي الأضرار المادية بـ 25 مليار دولار، أي ما يفوق ثمانية أضعاف إجمالي الناتج القومي.

 

كان أمام الحريري، الذي استلم عام 1992 بلداً مدمراً، خيار واحد لا خياران: البدء في عملية إعادة الإعمار، ومصدر واحد للتمويل لا مصدران: الاستدانة من الخارج. فاعتمد في سياسته الاقتصادية على تطبيق نظرية “كينز” التي تقوم على فكرة تدخل الحكومة من أجل زيادة النمو، وقام عملاً بمبدأ الرافعة في الاقتصاد باقتراض مليارات الدولارات بفوائد منخفضة لإعادة تأهيل البنية التحتية والمرافق العامة، فأنفقت حكومته 20 مليار دولار في برنامج إعادة الإعمار. انعكست هذه السياسة تحسناً في المؤشرات الاقتصادية كافة، فارتفعت نسبة النمو إلى 8%، ومعدل الدخل الفردي السنوي الى 4500 دولار، في حين انخفض كل من سعر صرف الليرة اللبنانية إلى 1502 للدولار ومعدل التضخم السنوي من أكثر من 100% إلى 5%؛ كما قفزت احتياطيات النقد الاجنبي إلى ما يزيد عن 6 مليارات دولار وارتفع إجمالي الناتج المحلي 3 أضعاف ليصل إلى 16.3 مليار دولار في نهاية العام 1998. وبلغت خلال فترة حكومته الأولى (1992-1998) مجموعة الزيادة في الدين العام 15.7 مليار دولار أميركي، هدفت بالدرجة الأولى إلى إعادة تأهيل البنى التحتية والمرافق الحيوية.

 

محاربة نهجه الاقتصادي تمهيداً لاغتياله

 

عام 1998، تم إقصاء الرئيس الحريري من الحكم وتعرّض لموجة من أبشع الانتقادات في محاولة لتشويه سمعته من خلال مقولة “الحجر قبل البشر” التي أطلقها الرئيس سليم الحص، والذي شكّل حكومة كان عنوانها الأساسي الثأر والانتقام من الحريري ومن نهجه الاقتصادي. وللمرة الأولى منذ ثماني سنوات، شهد الاقتصاد اللبناني عام 1999 نمواً سلبياً مسجلاً 1-%، في حين لم تتخط نسبة النمو الـ 1.2%. في العام 2000، حاولت حكومة الحص تخفيض الإنفاق عبر خطة تقشفية، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً مع تراجع النمو الاقتصادي إلى الصفر. وقد أدى ذلك إلى أعباء إضافية على خزينة الدولة، بحيث زاد الدين العام 6.5 مليارات لتصل قيمته إلى 25.2 مليار دولار، تزامناً مع تسجيل عجز الميزانية ارتفاعاً بنسبة 43%.

 

عاد رفيق الحريري في العام نفسه إلى رئاسة الحكومة، مركزاً على عودة النمو ومعالجة المشاكل المالية عبر استكمال إصلاحاته السياسية والإدارية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، وتوّج مساعيه بعقد مؤتمري باريس “1” وباريس “2” حيث استطاع من خلالهما تأمين تمويل جديد بلغت قيمته 10 مليارات دولار لاستبدال ثلث دين لبنان بكلفة لا تتعدى 3% سنوياً، ووضع حدّ لتنامي الدين العام وتخفيض خدمته، وتحسين تصنيف لبنان. فتراجع عجز الموازنة من 4 إلى 2 مليار دولار وارتفعت معدلات السياحة إلى 1.5 مليون زائر، وزادت معدلات الاستثمار إلى 850 مليون دولار. عاما 2003 و2004، كانا من أصعب السنوات على لبنان، حيث تم ايقاف اجراءات الخطة الاصلاحية، والهجوم على الموازنة وإخراج كل المشاريع الاصلاحية منها، فبدأت الانتقادات تنهال من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وخسر لبنان 700 مليون دولار من القروض المتدنية الفائدة والطويلة الأمد و1.3-1.5 مليار دولار من تمويل المشاريع. وعلى إثر ذلك، وصل الدين العام نهاية عام 2004 إلى 36 مليار دولار مشكلاً 170% من حجم الناتج المحلي.

 

أدرك الحريري أنّ الاستمرار قدماً في النهوض في الوضع الاقتصادي مهمة مستحيلة مع الرئيس إميل لحود، إذ كان المطلوب تحجيمه وتقويض نجاحاته، فعطلت كل مبادراته الاقتصادية ومشاريعه الإصلاحية، ليُجبر بعد التمديد للحود على الاعتذار عن تشكيل الحكومة.

 

واقع الدين العام بعد الاغتيال

 

لم يكن رفيق الحريري يوماً ولن يكون في أي يوم من الأيام، المسؤول عن تراكم حجم الدين العام. صحيح أنه كان الأوحد في امتلاك مشروع اقتصادي، إلا أن آليات تنفيذ هذا المشروع لم تكن تحت كامل سيطرته، حتى أنه في كثير من الأحيان سُلبت منه القدرة على التحكم بالعديد من المفاصل الاقتصادية المهمة. فحين تمّ اغتياله عام 2005، كان حجم الدين العام يقدّر بنحو 38.5 مليار دولار. أما اليوم، وبعد 15 عاماً من رحيله القسري، يبلغ الدين العام 86 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 47،5 مليار دولار. منذ اغتياله، تعاقب على لبنان العديد من الحكومات، طغت عليها سياسة التعطيل وتأخير التشكيل بدءاً من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الاولى وصولاً إلى حكومة الرئيس سعد الحريري الأخيرة. ولو تم احتساب أشهر تعطيل التأليف ما بعد التكليف، إلى جانب تعطيل العمل الحكومي بعد محاصرة السراي، لوجدنا أنّ لبنان خسر ما يقارب 5 سنوات من العمل الحكومي، دون إغفال عدم إقرار أيّ من الموازنات على مدى أكثر من 12 عاماً.

 

هذا فضلاً عن حرب تموز التي حوّلت وجهة اهتمام حكومة السنيورة من إعادة النمو إلى إعادة الإعمار من جديد، بتكلفة تجاوزت قدرة لبنان على تحمّلها بلغت 7 مليارات دولار، ناهيك عن حصار السراي و7 أيار وغياب الانتظام عن عمل المؤسسات الدستورية على مدى 18 شهراً، وإقفال مجلس النواب ممّا حال دون إقرار الموازنة، ودفع بالحكومة إلى الصرف على أساس القاعدة الاثني عشرية والاعتمادات من خارج الموازنة. وقد أدت هذه السابقة إلى تدمير المالية العامة وتدهور معظم المؤشرات الاقتصادية، وأوصلت لبنان إلى 41 مليار دولار من الديون، ليرتفع الدين العام إلى 183% من الناتج المحلي وينخفض النمو إلى 1.6%. مع استلام الرئيس سعد الحريري الحكم، تعرض كما والده، لموجة من الاتهامات والانتقادات، وأخرج من الحكم عنوةً عام 2011 وازداد بخروجه الدين العام في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي 11 مليار دولار. عام 2014، دخل لبنان مرحلة الفراغ الرئاسي، مكبّداً لبنان خسائر بالمليارات، ومحدثاً خللاً في المالية العامة لمدّة 29 شهراً، اتخذ خلالها النمو منحى ضعيفاً يقلّ عن 1.5% وقدرت خسائر الخزينة والقطاع السياحي بــ 1.1 مليار دولار.

 

وخلال عامي 2014-2016، ارتفعت نسبة إقرار المناقصات العامة بشكل كبير مع ارتفاع هائل في عدد النازحين السوريين، ما أدى إلى ارتفاع الدين العام 11.27 مليار دولار ليصل إلى نحو 75 مليار دولار. وبعد تبني ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية عام 2016، عاد الرئيس سعد الحريري مجدداً إلى رأس السلطة التنفيذية، إلا أنه لم يستطع وضع أو تنفيذ أية خطة اقتصادية، وأعلن استقالته في 29 تشرين الأول 2019، استجابة لإرادة شعبه ورغبة منه في إحداث صدمة إيجابية، بعدما وجد نفسه في طريق مسدود بعد 14 عاماً من العمل السياسي. وفي قراءة لأرقام حجم زيادة الدين العام في حكومات لبنان بعد اغتيال الحريري، نجد أنّ المعدل الوسطي للزيادة الشهرية في الدين العام تتصدرها حكومة الرئيس ميقاتي مع 489 مليون دولار شهرياً على مدى 24 شهراً، وأن حكومتي الرئيس سعد الحريري سجلت 169 مليون دولار شهرياً على مدى 25 شهراً. وهذا يدلّ أنّ حكومات سعد الحريري هي وحدها التي حافظت على أقل مستوى ارتفاع شهري في الدين العام، وأنّ الحكومات التي خلت من نهج الحريرية هي الأكثر مديونية.

 

بأي ذنب تدان؟

 

منذ البداية، حوربت الحريرية السياسية والاقتصادية، وحاولوا قتلها مراراً وتكراراً، خوفاً من ارتباط قصة إعمار وطن برجل أوحد، فنسبوا إليها كلّ أزمة اقتصادية وكلّ خلل مالي، وحمّلوها مسؤولية الدين العام الذي لم يكن في لبنان يوماً من الأيام مشكلة اقتصادية بحتة، بل انعكاساً للأزمات السياسية منذ العام 1992 وحتى اليوم. وبالرغم من أنّ هذا الدين الذي تجاوز عتبة الـ 86 مليار دولار هو دين اقتصادي الطابع، إلا أنه بالدرجة الأولى دين سياسي عنوانه الهدر والفساد ويتخطى حجمه أكثر بكثير قيمته المعلنة. من هنا، تأتي أهمية إلقاء الضوء على الأسباب الفعلية لتراكم هذا الدين والتي يمكن تلخيصها في سببين رئيسيين: أولهما قيمة الدين العام قبل استلام رفيق الحريري الحكم (3 مليارات دولار)، والذي لم تستطع خزينة الدولة حينها تسديده، ما أدى إلى ارتفاع قيمته تزامناً مع خدمة هذا الدين. وثانيهما، ملف الكهرباء الذي يعدّ المصدر الأساسي للفساد مشكلاً 38 مليار دولار من أصل قيمة الدين العام البالغ 86 مليار دولار (45% من حجم الدين العام).

 

وفي هذا الإطار، فإنّ أكثر ما يحتاجه لبنان اليوم هو تطبيق قانون رفيق الحريري رقم 462 المتعلق بالكهرباء، للحدّ من هذا الازدياد الهائل في حجم الدين العام، فلو سُمح حينها للحريري بتطبيقه، لخفّض حجم الدين إلى 43 مليار دولار نهاية العام 2017، ووفّر 17 مليار دولار كلفة إضافية يدفعها المواطنون لأصحاب المولدات الخاصة. وكان من شأن هذه الأموال المهدورة استثمارها في مشاريع تحقق نمواً إضافياً للاقتصاد بمعدل يتراوح ما بين 1 و1.5% سنوياً وفق تقرير البنك الدولي، الى جانب انخفاض نسبة الدين العام للناتج المحلي إلى 80% بدلاً من نحو147% للعام 2018.

 

ثمة من يشكك: إذا كان الدين العام – ومعظمه بسبب الحروب بين عامي 1975و1992 وتكلفة إعادة الإعمار – يشكل ثقلاً على الاقتصاد اللبناني، فما هي تكلفة اغتيال الحريري وحرب تموز وحصار السراي وإقفال المجلس والأزمة السورية؟ وما هي تكلفة عدم إقرار الموازنات لا سيّما موازنات الأعوام 2011 و2012 و2013؟ وما هي تكلفة الهدر في الكهرباء، والجمارك والمعابر الغير الشرعية التي تشكل مجتمعة أكثر من نصف الدين العام؟ أليست هي الاًكثر ثقلاً والأشد عبئاً وفتكاً بالاقتصاد؟ وإن كانت السياسات الحريرية هي عرّاب الدين كما يدّعون، فأين هم من السياسات الاقتصادية التي تلجم هذا الدين؟ أين هم من إقرار الموازنات وخلق الرؤى الإنمائية والخدماتية؟ وإن كانوا فعلاً يملكون بديلاً عن مشروع الحريري الإنمائي والإعماري، فلماذا لم يضعوه في عهدة الوطن؟إذاً…

 

أيّ ذنب للحريرية السياسية والاقتصادية في تعطيل مفاعيل باريس “2” و”3″و “سيدر”؟ أيّ ذنب لها في فساد كهرباء يتخطى الـ 2 مليار دولار سنوياً؟ أيّ ذنب لها في تهرب جمركي وضريبي يتخطى الـ 6.5 مليارات دولار سنوياً؟ أيّ ذنب للحريرية السياسية والاقتصادية في منع إقرار أي قوانين تحقق وفراً للخزينة العامة؟ أيّ ذنب لها في إقفال مجلس النواب وتعطيل وسط بيروت التجاري؟ أيّ ذنب للحريرية في ثمنٍ دفعه رفيق الحريري دماً وليس مالاً؟