IMLebanon

قراءة هادئة لخطاب سعد الحريري في الذكرى العاشرة لغياب الرئيس الشهيد رفيق الحريري

قراءة هادئة لخطاب سعد الحريري في الذكرى العاشرة لغياب الرئيس الشهيد رفيق الحريري

حماية لبنان بخروجه من المشروع الإيراني والحوار لتفادي الإنزلاق إلى الحرب الأهلية

شكلت الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري هذا العام محطة مفصلية في الحياة السياسية اللبنانية، كونها جاءت في لحظة صعبة ودقيقة داخلياً، وفي خضم حرائق هائلة يشهدها المحيط العربي، وهي تهدد الشعوب والدول والمستقبل..

صمد الرئيس الحريري في وجه موجة الضغط التي شنها «حزب الله» لجره إلى إفشال الحوار والتخلي عنه، تحت ضغط العنجهية والاستكبار والمبالغة في التشاوف والعنتريات، كما نجح الرئيس الحريري في ضبط الإيقاع ضمن الشارع السني، واستخلاصه من تشويش موجات التطرف، رغم وجود الكثير من عوامل الاحتقان والدفع نحو التشدّد في هذا الشارع، الذي يعاني كل أشكال الإفقار والتهميش والضغط الأمني والاجتماعي..

خارجياً، وضع الرئيس الحريري لبنان في موقعه الطبيعي ضد أنظمة الاستبداد، وضد التمدّد الإيراني في المنطقة العربية، في حين يكمن التحدي في كيفية التوفيق بين «محاربة الإرهاب» الصادر عن المجموعات المتشددة، وبين مواجهة الإرهاب الإيراني الذي يضرب في سوريا والعراق واليمن، والحبل على الجرار..

من الواضح أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري ترك إرثاً مكن الدولة اللبنانية من البقاء رغم كل ما مرّ عليها من عواصف حتى الآن.. لكن التحديات الراهنة أسقطت أنظمة، وأزالت حدوداً وفتّتت مجتمعات، لذلك يصبح التحدي في هذه الظروف أصعب وأخطر، وأدعى لاستلهام تجارب الرئيس الشهيد وللتمسك في توثيق العرى مع القيادة السعودية.

وفيما تخوض المملكة العربية السعودية سباق الحفاظ على التماسط العربي، تسارع يد الهدم الإيرانية إلى التخريب في الساحات العربية، وهو ما دفع الرئيس سعد الحريري إلى التركيز في كلمته بالمناسبة، على أهمية العلاقة بالمملكة كضامن للاستقرار الداخلي، وقطب جامع على المستوى العربي والدولي.

العلاقة اللبنانية – السعودية: فاتحة الثوابت

 استهل الرئيس سعد الحريري كلمته بالوقوف عند التطورات في المملكة العربية السعودية، واضعاً الإطار المتجدّد لعلاقة لبنان بقيادتها وشعبها، مستهلاً بتجديد التعزية برحيل «صديق لبنان الكبير الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، الذي سيبقى في ذاكرة اللبنانيين أَباً وراعياً ونصيراً واسماً للشهامة والشجاعة والأخوّة الصادقة».

وتابع الرئيس الحريري توجهات القيادة الجديدة في المملكة، بالقول: «قبل أيام، واكبنا مع الشعب السعودي الشقيق، مبايعة حامل الأمانة التاريخية بالاستقرار والتغيير والانفتاح، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير مقرن بن عبد العزيز، وولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز الذين نرفع لهم باسمكم جميعاً عهد الوفاء للمملكة، ملتزمين السير على خطى الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي زرع في قلوبنا، محبّةَ المملكة وشعبها وقيادتها، وعاد منها إلى وطنه لبنان بإرادة الخير والبناء والاعتدال والسلام الوطني».

وأكد الرئيس الحريري أهمية الاستمرار في نهج الرئيس الشهيد بالتحالف مع المملكة، وهو نهج جنَّب لبنان الكثير من الكوارث وأمدّه بالكثير من عوامل الصمود والاستقرار، رغم كل ما واجهه من محن وفتن وحروب، مؤكداً أننا «لن نسلّم حلم رفيق الحريري بالتكامل العربي وبناء الدولة الحديثة لرموز الإجرام والاستبداد والإرهاب. سنبقى على إيماننا بقدرة اللبنانيين وبقدرة العرب على تجاوز النزاعات، بإرادةِ الاعتدال الذي ترعاه المملكة العربية السعودية».

وأكد الرئيس سعد الحريري أن موقع لبنان مرتبط بمساره التاريخي العميق والعريق، كواحة عربية للثقافة والتنمية ولحمل لواء القضايا المحقة، مشيراً إلى ان «الكلام يتكرر عن اعتبار لبنان جزءا من محور يمتد من إيران إلى فلسطين مروراً بسوريا ولبنان. ونحن نقول: لبنان ليس في هذا المحور، ولا في أي محور، غالبية الشعب اللبناني تقول لا لهذا المحور ولأيّ محور. لبنان ليس ورقة في يد أحد، واللبنانيون ليسوا سلعة على طاولة أحد».

شرقنا العربي في غياب الرئيس الشهيد

 بعد استعراض تاريخي للنكسات التي ألمّت بلبنان بدءاً من اسقاط تفاهم نيسان فالعدوان الصهيوني عام 2006 وما تلاها من خروج سافر على معادلة الدولة التي باتت رهينة من أمسك بقرار السلم والحرب لتضع لبنان على حافة الصراع من كل الجهات، وانهيار دول، وسقوط أنظمة وتصدع مجتمعات، وتحول عدد من المدن العربية العريقة إلى مستنقع للفتن والاستبداد والإرهاب.

وفي غياب الرئيس الشهيد تمكَّن بشار الأسد من تكسير سوريا على رؤوس السوريين، وأجهز جيشه وحلفاؤه من تجار الحروب الأهلية على أكثر من نصف مليون ضحية، ونجح في تشريع الحدود لانتشار قوى التطرف والضلال، وتهجير عشرة ملايين مواطن سوري يهيمون على مأساتهم في مشارق الأرض ومغاربها.

وتطرق نجل الشهيد إلى ما حلّ بالعراق، حيث «ساد حكام جعلوا من التعصب أساساً للملك، وسلَّموا الجيش العراقي على طبقٍ من فساد، لفلول القاعدة وداعش ودولة الخلافة الزائفة».

وتطرق الرئيس الحريري إلى المزيد من سياسات إيران المدمرة، التي «نزعت ثوب السعادة عن اليمن، وسلَّمت أقدارها لسياسات الهيمنة ونزاعات القبائل، ونسخت التجارب سيئةَ الذكر، في محاصرة الرئاسات والحكومات وفرض التغيير السياسي بقوة السلاح».

وتوقف ملياً عند فلسطين التي تركت لأقدارها، تواجه… منفردةً…مشاريع العدو بالاقتلاع وتهويد القدس دون غطاء أو نصير. وعند وقوع ليبيا في شرور الميليشيات وحـشد اليأس جيوشه وقواه في أرجاء الأمة».

أداء الشهيد الحريري: مشروع للحياة

 أثبت الرئيس الشهيد أنه حمل مشروعاً سياسياً أعمق من مجرد الوصول إلى السلطة، أو الإعمار لوسط بيروت أو نشر مشاريع البنى التحتية في المناطق.. بل هو مشروع الحفاظ على الصيغة اللبنانية، منقحة من آثار الحرب، وأن الرئيس رفيق الحريري قد ترك إرثاً بدأت قيمته الحقيقية تظهر كلما أبعدتنا السنون عن تاريخ اغتياله المروّع والمدوّي، جوهره الحفاظ على «الدولة، والرسالة والديمقراطية، لبنان اتفاق الطائف، والعيش الواحد».

تفادي الحرب الأهلية في فصلها الأخير الضاغط

 أما الرابط الأهم الذي قدمه الرئيس سعد الحريري في مقاربة نهج حماية لبنان، فهو قوله: «واليوم أكثر من أي وقت مضى، يبقى مشروع رفيق الحريري، صالحاً لمواجهة التحديات وجديراً بتضحياتنا جميعاً. لا حل للتحديات التي تواجه لبنان سوى مشروع رفيق الحريري. لقد بذل الرئيس الشهيد سنواتٍ وسنواتٍ من الجهد لوقف الحرب الأهلية، وها نحن اليوم نكافح معاً، شبح عودة الحرب الأهلية».

الأرجح أن هذه هي النقطة الجوهرية في خطاب الرئيس سعد الحريري، حيث يتضح أن لحظة اتخاذ القرار بفتح قناة الحوار مع «حزب الله»، كان شبح العدوان الإيراني يخيّم على لبنان، وكان البلد مهدداً باجتياح مشابه لما شهدته اليمن، في ظل توتر إيراني غير مسبوق على أعتاب المرحلة الحاسمة من المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية.

نستطيع الترجيح أن الجنون الإيراني كان يمكن أن يطيح بالتوازن الهش الذي أبقى الوضع هادئاً في لبنان، خاصة بعد تراجع الإشارات الإيرانية الإيجابية في ملف رئاسة الجمهورية، وانتفاء إمكانية تكرار جمع الأضداد كما حصل في حكومة الرئيس تمام سلام.

ومن هنا، جاءت خطوة الحوار مع حزب إيران في لبنان، لتطويق تلك اللحظة الحامية، وتبريدها لبنانياً واستيعاب العاصفة وتمريرها داخل «توربينات» توليد الطاقة الإيجابية التي أتقن آل الحريري إنتاجها على امتداد سنوات حضورهم في الحياة السياسية اللبنانية.

تابع: «بداية البداية في مواجهة كل هذه التحديات، وفي مواصلة الرد على مشاريع الدمار، ومحاربة اليأس والفقر والجهل والتخلف، بداية البداية، أن نحمي لبنان، بكل ما لدينا من قوة ومن وسائل. من هذا المنطلق قرّرنا العام الماضي ربط النزاع في حكومة كانت مهمتها الأولى تفادي وقوع البلد في الفراغ التام. وهذه مناسبة لتوجيه التحية لدولة الرئيس تمام سلام على عمله الدؤوب وصبره الطويل في تولي المسؤولية الوطنية الحيوية في هذه المرحلة».

رفض الإعتراف بـ«حزب الله» قوة خارجة وخارجية

 في سياق طمأنة الجمهور القلق من الحوار بين «تيار المستقبل» و«حزب الله» قال الرئيس الحريري: «نحن، وبكل وضوح، لن نعترف لـ«حزب الله» بأي حقوق تتقدم على حق الدولة في قرارات السلم والحرب، وتجعل من لبنان ساحة أمنية وعسكرية، يسخّرون من خلالها امكانات الدولة وأرواح اللبنانيين لإنقاذ النظام السوري وحماية المصالح الإيرانية. أمّا ربط النزاع، فهو دعوة صريحة وصادقة لمنع انفجار النزاع. المهم بالنسبة لنا هو رفض الانجرار وراء الغرائز المذهبية، والامتناع عن تحكيم الشارع في الخلافات السياسية».

أسباب الإحتقان المذهبي

 شخّص الرئيس الحريري أسباب الاحتقان السني الشيعي بأربعة:

أولاً: رفض حزب الله تسليم المتهمين بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ثانياً: مشاركة حزب الله في الحرب السورية.

ثالثاً: توزيع السلاح تحت تسمية سرايا المقاومة.

رابعاً: شعور باقي اللبنانيين بأن هناك مناطق وأشخاصاً وفئات لا ينطبق عليهم لا خطة أمنية ولا دولة ولا قانون».

ومع إدراك الرئيس الحريري أن «حزب الله» لن يقدم جدياً أي شيء بين يدي الحوار، وأن الحزب غير مستعجل لحل أزمة الرئاسة الأولى في لبنان، رغم جدية «المستقبل»، يبقى الحوار هو الوسيلة الأمثل لتجنب انفجار الشارع، وحصر الصراع في الأطر السياسية.

تحدي مواجهة الإرهاب بأجندة «المستقبل»

إلا أن التحدي الأكبر الذي يطرحه الرئيس سعد الحريري هو كيفية الإفادة من الإجماع الوطني ضد الإرهاب، من دون أن يقع معارضو إيران وسياساتها في فخّ «الصحوات» كما حصل في العراق، حيث تم استغلال المعركة ضد المجموعات الجهادية لضرب الواقع السني وإضعافه، ثم الانقضاض على السنة ممن ناصروا ما سمي مشروع الدولة، الذي هيمنت إيران في النهاية عليه، فنكلت بأهل السنة من جميع الأطياف، وافتعلت مع نوري المالكي فتنة لم تنتهِ حتى اليوم، وهي مؤهلة للتواصل اشتعالاً وسعاراً لسنوات طويلة قادمة.

فشل لبنان في صياغة استراتيجية وطنية ضد العدو الصهيوني، رغم وجود إجماع أعظم وأوسع ضد هذا الكيان الغاصب.

اليوم، هناك خشية واسعة النطاق من أن تنتهي الحرب على الإرهاب بفوز الطرف المسلح الذي يحسم المعركة، وهذا الطرف سواء كان إيران وأحزابها، أو المجموعات المتطرفة، فهذا يعني هزيمة مشروع الدولة المدنية التي يؤكد الرئيس الحريري أهمية التمسك بها.

إن المعادلة التي طرحها الرئيس الحريري من أنه «ليس من مكان في الوسط، بين الاعتدال… والتطرف. ليس من مكان في الوسط بين الدولة والفوضى، ليس من مكان في الوسط بين الجيش والميليشيا، ليس من مكان في الوسط بين الوحدة الوطنية والحرب الأهلية، ليس من مكان في الوسط بين لبنان السيد المستقل وبين لبنان الفتنة والانقسام»، هي معادلة جوهرية وهامة، كونها تطال طرفي التطرف (السني والشيعي)، وهي واضحة لا تحمل الالتباس.

في المقابل، يعتبر التأييد الكامل للجيش حلاً نموذجياً لإشكالية الدويلة داخل الدولة، لكن المطلوب في هذه المرحلة استعادة الثقة بالمؤسسة العسكرية، عبر تفعيل الشفافية وتزخيم ضخ روحية القانون وتوسيع دائرة المحاسبة الذاتية، وتخفيف الاحتقان، بين الجيش وشرائح لبنانية تعاني، باعتراف نواب كتلة «المستقبل» قبل غيرهم بحصول تجاوزات تحتاج إلى معالجات سريعة وعميقة.

إن وجود الرئيس الحريري في لبنان، فرصة لمعاينة هذه الملفات بشكل مباشر للعمل على تجاوزها، وطيّ صفحة القائمين بها، وتنقية الصورة التي شوههتها شوائب تثير القلق.

صراع طويل: مشروع الدولة مقابل الدويلة

 أخيراً، فتح الرئيس سعد الحريري معنى جديداً لاستمرارية الصراع بين الحق والباطل، يقوم على الاستمرارية في المواجهة الزمنية الممتدة، لكن بأفق مقابل لنظرية الصراع المذهبي الممتد عقوداً وقروناً.

فمن المعروف أن الإيرانيين قاموا بإحياء الصراع السني – الشيعي على أساس رمي المسؤولية التاريخية في استشهاد سيدنا الحسين عليه السلام على مجمل أهل السنة، وصاغوا في هذا السبيل منظومة معقدة من الأفكار والخطابات والممارسات..

في المقابل، قال الرئيس الحريري: «عشر سنين، 120 شهرا، 520 أسبوعا، 3650 يوما، أكثر من 87 ألف ساعة، وأكثر من نص مليون دقيقة، وليس من دقيقة ولا ساعة ولا يوم إلا وأتذكر وأشتاق وأسأل: أين وهو؟ ولماذا؟ وما العمل؟ والجواب أجده فيكم، وأسمعه منكم، وأقوله معكم، جوابنا،… بعد عشر سنين وبعد مائة سنة وألف سنة.. هو «إنّو نحنا…. مكمّلين… مكمّلين وما منيأس»، ويبقى إيماننا برب العالمين ومن بعده بقدرة الشعب اللبناني، ويبقى مشروعنا تحقيق حلم رفيق الحريري للبنان».

———————

* رئيس هيئة السكينة الإسلامية