IMLebanon

حلول واقعية لمديونيَّات تاريخية

ما يحدث حالياً في اوروبا من تجاذب بين الدائنين والمدينين يبيّن ان عمليات شطب الديون ليست غريبة ولا هي غير واردة، ان كان في التاريخ القديم او المعاصر. وعملية إلغاء الديون هذه يمكن العودة بها الى بلاد الرافدين منذ ٢٤٠٠ سنة قبل الميلاد.

قد تكون من المسلمات مع قانون حمورابي الموجود حالياً في متحف اللوڤر في باريس والذي يشدد على غسل الديون في حال فشل الحصاد. والموضوع ليس بالغريب عن عالمنا الحديث حيث بلغت هذه الديون بين العامين ١٩٣٢و١٩٣٩ ما يساوي ١٩٪ من الناتج المحلي في معظم الدول المتقدمة (حسب رينهارت و Tresbech) وحيث كان نادراً ما يتم تسديد هذه الديون ما عدا فنلندا، والتي كانت البلد الوحيد الذي تمكن من الوفاء بالتزاماته بعد انتهاء الحرب.

اما بقية الدول وعلى رأسها ألمانيا، تمكنت ومن خلال اتفاقية لندن في العام ١٩٥٣من شطب معظم ديونها بمساعدة اميركا التي أرادت من خلال ذلك تقوية اوروبا الغربية في وجه تنامي الشيوعية والاتحاد السوفياتي. وجاء اجمالي العفو بنسبة ٢٨٠٪ من الناتج المحلي بما سمح لألمانيا بالعودة الى الاسواق المالية لتصبح جزءا من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

حسب المؤرخة Ursula Jachinski ما كان ممكنا لهذه المعجزة الاقتصادية ان تحصل لولا عملية شطب الديون هذه. لذلك تحاول اليونان حالياً، ومع حكومتها الجديدة، أخذ اوروبا الى مؤتمر للديون على غرار الذي حصلت عليه ألمانيا بعد الحرب علماً ان الهاوية لاتزال كبيرة بين الدائنين والمديونين في اوروبا وعلى رأسهم اليونان والترويكا الاوروبية- وقد يكون وضع اليونان حاليا ومحاولتها الوصول الى اتفاقية تلغي معها على الأقل قسما من ديونها هي اصعب بكثير من وضع ألمانيا عقب الحربين العالميتين الاولى والثانية بسبب الضغوط المتزايدة في أسواق القطاع المالي والتي هي اقوى بكثير مما كانت عليه في العام ١٩٥٠.

لذلك قد تكون اليونان اليوم في حاجة الى صفقة مماثلة بالرغم من الفروقات الواضحة بين المحنة الراهنة وما مرت به ألمانيا بعيد الحربين العالميتين وانهيار الاقتصاد الألماني في أوائل ١٩٣٠.

وقد تكون الدروس من خمسينيات القرن الماضي وحتى وقتنا هذا منسية بعض الشيء والتقشف الذي فرض على اليونان هو نفسه الذي فرض على بلدان اميركا اللاتينية في الثمانينات ولم تتمكن هذه الدول من الخروج من محنتها الا بعد إعفائها من بعض ديونها.

لذلك قد تؤدي تدابير التقشف المفروضة على الاقتصادات الهشة في أعقاب الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ الى اضطرابات مماثلة كالتي حدثت في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الاولى وأدت الى بروز النازية.

لذلك نرى ان ما شاهدته الولايات المتحدة في العام ١٩٥٣ من أجل اعادة بناء الاقتصادات الاوروبية تتغاضى عنه ألمانيا اليوم بحجة البرامج الإصلاحية التي يجب ان تتبعها الدول المديونة غير آبهة لما يمكن ان يحصل لدولة مثل اليونان وغيرها من الدول الاوروبية التي ترزح تحت عبء ديونها وتتبع برامج تقشف لا يمكن معها إعادة بناء الاقتصاد وإنعاش النمو وتخفيف البطالة.

وللعلم، فان الديون الاقتصادية في البلدان النامية لا يمكن تسديدها بالكامل وببساطة لأن الناس الذين يعيشون في العالم النامي لا يستطيعون ذلك وسط عدم الكفاءة في النظام الاقتصادي والتكيف الهيكلي ناهيك عن الفساد في العديد من البلدان التي تعاني أزمات مديونية حادة، ولبنان واحد منها، وهو يعيش فوضى خلاقة (بالأذن من كوندوليزا رايس) حيث المحسوبيات والتهرب الضريبي وعدم الكفاءة ونظم ادارية ضعيفة تجعل من الصعب التكهن بما سيكون مصير البلد اذا كنا سائرين على خطى اليونان.

وهناك فارق بسيط، اذ ان انهيار اليونان يعني الكثير لأوروبا ويهدّد الوحدة التي طالما سعوا الى تحقيقها بينما انهيار لبنان سوف تأتي عواقبه على اللبنانيين فقط ولن يكون هنالك من سوف يساعد هذا البلد على الخروج من مديونيته ومشاكله.

وقد فشلت برامج صندوق النقد الدولي التي ركزت على السياسات الاقتصادية الداخلية للبلدان المثقلة بالديون في تشجيع اي نوع من النمو الاقتصادي بل على العكس أتت بنتائج عكسية وجعلت مستقبل هذا النمو موضع شك. لذلك، شارك الكثير من المراقبين جيفري ساكس في تقييم برامج التكييف الهيكلي «structural adjustment programs» والتي اعتمدت بشكل متكرر وفشلت مراراً وتكراراً.

لذلك نرى ان برامج صندوق النقد الدولي او المركزي الاوروبي ومعه ألمانيا جاءت غير مؤاتية ولم تأخذ في الاعتبار عدم قدرة الدول على تسديد ديونها مما يعني تراجع مستمر في اقتصادها ونموها، وهذا يساعد في انخفاض مستويات المعيشة في البلدان المثقلة بالديون وزيادة المخاوف من احتمال عنف سياسي او على أقله تغيرات سياسية في مواجهة تدابير التقشف المفروضة.

اما التكلفة الاكثر أهمية في تخلف الدول المديونة هو تهديد النظام المالي الدولي وقيام خطر انهيار مصرفي. لذلك نرى ان هناك أزمة ثقة في النظام المصرفي. وللعلم، معظم المصارف الخاصة أوقفت إقراض المال الى البلدان النامية وزادت قيمة الاحتياطي لتعويض الخسائر المحتملة من تسديد القروض.

لذلك قد تكون الحلول واحدة من ثلاثة: عدم الدفع، تعديلات طفيفة في التسديد او تخفيض. وهذه أمور جرت سابقاً حيث امتنعت العديد من الدول عن تسديد ديونها مثل بوليفيا، البرازيل، كوستاريكا… علماً ان هذه العملية غير محبذة ويمكن ان تزيد سوءا وضعية الدول المديونة، واحتمال التعرّض لانتقام من الحكومات الدائنة ووكالات الإقراض المتعددة الأطراف ويمكن ان تؤثر على العملات والعلاقات بالدول المجاورة.

هذا بالفعل ما تخشاه اليونان في وضعها الحالي، ومن المستبعد ان تمتنع اليونان عن التسديد الا اذا فشلت جميع محاولات Tsipras ووزير المال اليوناني في الوصول الى نتائج ملموسة مع الترويكا الاوروبية، وصندوق النقد الدولي وهذه النتيجة ليست في مصلحة احد.

اما مشاكل تخفيض الديون، فقد أخذت الحيز الاكبر من نشاط المؤسسات المدينة منذ عام ١٩٩٢ أو ركزت على تعديل وقت وقيمة التسديد علماً ان تخفيض الديون يمكن ان يقلّل من حوافز الدول المديونة في السعي الى تغييرات اقتصادية يمكنها ان تؤدي الى زيادة الكفاءة.

كذلك يمكن ان يكون لها تأثير على فعالية وكالات الإقراض العالمية مثل البنك الدولي مما يفسد فعاليته في المستقبل علماً انها أصبحت احتمالا حقيقيا في ربيع ١٩٨٩ مع الإعلان عن خطة جديدة اطلق عليها اسم خطة برادي (وزير الخزانة الاميركي نيكولاس برادي آنذاك) والخطة ترمي الى تخفيض ما مجموعه نحو ٢٠ ٪ من الديون مع ضمانات من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لدفع المستحقات الباقية. وأخيرا، تبقى اعادة الجدولة مع تعديل الوقت وطريقة التسديد مع وسائل عدة لتخفيف ذلك وشراء القروض بأسعار مخفضة وغير ذلك.

كل هذه تبقى مقترحات وليست بالجديدة انما بدأت منذ زمن بعيد كون الولايات المتحدة الأميركية ومعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يعلمون علم اليقين ان سياسات التقشف لا يمكنها في المطلق ان تصل بالدول المديونة الى تسديد ديونها الا على حساب نموها وتقدّم شعبها.

وقد يكون هذا الواقع ينطبق على لبنان لاسيما وان خدمة الديون تمتص الجزء الأكبر من ميزانية الدولة وأي تلكوء يهدد النظام المصرفي القائم، ويكون على حساب المدخرين.

في النتيجة، من المعروف ان ازمة الديون والمديونية قديمة جداً وليست سابقة مع اليونان بل بدأت منذ فجر التاريخ وأميركا تعلم علم اليقين اننا واليونان والعديد من الدول النامية لا يمكننا تسديد ديوننا الا من خلال الإعفاء اوالشطب او اعادة الهيكلة.