IMLebanon

اجترار الفشل

 

إنْ صدق ما أكده مسؤول أميركي رفيع المستوى لقناة «الحدث» وما سبق أن أشارت إليه صحيفة «الشرق الأوسط»، أن اجتماعاً ثلاثياً سيضم الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل سيُعقد نهاية شهر يونيو (حزيران) الحالي، على مستوى مستشاري الأمن القومي للدول الثلاث لمناقشة الوضع في سوريا وبحث «ترتيبات إخراج إيران» منها، فسنكون عشية محطة من محطات الدوران العبثي على أنفسنا، لأن مرحلة التسويف وتبادل المصالح حول سوريا وعلى حسابها تتواصل بين ساسة واشنطن وموسكو، في مسعاهم للإمساك بملفها وإضعاف متدرج للدور التركي والنفوذ الإيراني وتوفير مظلة ثنائية لأمن إسرائيل.

بعض المصادر القريبة من الدوائر الروسية تتردد في تأكيد انعقاد هذا الاجتماع، باعتبار أن ما قد تقدمه واشنطن وتل أبيب من تسويات لموسكو غير كافٍ لانخراطها في مثل هذه العملية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن المسؤول الأميركي قال رداً على سؤال حول احتمال بقاء الأسد في السلطة، إن بلاده «تدعم مطالب الشعب السوري الذي دفع ثمناً باهظاً من أجل حريته»، فالواضح أن أي تنازل قد تقْدم عليه روسيا في سوريا ستقبض ثمنه… تعويم نظام الأسد وإعادة الاعتبار والشرعية إليه، إضافةً إلى رفع العقوبات وإطلاق عجلة الإعمار.

بمعزل عن حصول هذا الاجتماع من عدمه، تستذكر هذه الفكرة – المناورة زمناً غابراً حين وافقت إسرائيل وأميركا على انتشار الجيش السوري في لبنان عام 1976، بعد اتفاقَي الرياض والقاهرة تحت عنوان إنهاء الحرب الأهلية والسيطرة على المنظمات الفلسطينية الفاعلة حينها على الساحة اللبنانية، مع إبقاء منطقة في جنوب لبنان محظورة على الوجود السوري وُصفت يومها بالمنطقة العازلة لضرورات ما سُمي «الاشتباك المحدود»، فلم تتجاوز القوات السورية حدود نهر الأولي عند مدخل مدينة صيدا الجنوبية.

جرّت هذه التسوية المقيتة الويلات على لبنان واستفحلت الأمور بعدها فاجتاحت إسرائيل البلاد مرتين، الأولى عام 1978 والأخرى عام 1982 حين وصلت قواتها إلى العاصمة بيروت، فاقتلعت منظمة التحرير من لبنان وتُرك الجيش السوري في البقاع والشمال ليدخل بعد ذلك غربي العاصمة في فبراير (شباط) من عام 1987، قبل أن يدخل شطرها الشرقي في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1990. ومنذ ذلك الحين، سيطرت سوريا على مفاصل الدولة اللبنانية السياسية والأمنية والعسكرية حتى خروج قواتها عام 2005، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري واندلاع ما سُميت حينها «ثورة الأرز».

الغاية من هذا السرد الوقائعي هو القول إن الولايات المتحدة وإسرائيل تكرران الخطأ الذي ارتكبتاه منذ نحو نصف قرن وما زالتا، ونحن معهما ندفع ثمنه الباهظ. إن التمدد الإيراني الذي تشكو منه إسرائيل والولايات المتحدة سببه الرئيس هو نظام الأسد الأب والابن معاً، ومحاولتهما المزمعة علاج الداء مع الروس بالإبقاء على سبب تفشيه هي اللامعقول بعينه، إضافة إلى أنها تتجاهل واقع أن النظام الإيراني بات متغلغلاً في مفاصل وشرايين النظام السوري وحتى عظامه، بحيث إن الفصل بينهما بات معقداً وصعباً.

في السياق نفسه، اللافت أن واشنطن وإسرائيل تصران على اجترار الحلول الفاشلة عينها وتمعنان في تكرارها لحماية أمن إسرائيل، ونراهما تراهنان اليوم كما راهنتا الأمس على دور النظام السوري في تحقيق هذا الهدف، متجاهلتين كلياً أن ممارسات هذا النظام على مدى عقود هي التي سهّلت تمدد إيران ونمو ذراعها الرئيسة «حزب الله»، حتى أصبح دولة ضمن دولة وقوة عسكرية إقليمية متدخلة في أكثر من مكان. إذا قُدر لهذا الاجتماع الثلاثي أن يُعقد، فستكون ذيوله خطيرة ومؤثرة على مستقبل دول المنطقة، لا سيما لبنان وسوريا وفلسطين. فالانخراط في مسار كهذا يدل على مواصلة واشنطن نهجيها القديم – القديم والجديد – القديم. الأول هو أن همّ واشنطن في هذه البقعة من المنطقة هو أمن إسرائيل، وهي تمعن لهذه الغاية في تجربة المجرّب باعتماد تسويات تظن أنها ستحمي الدولة الإسرائيلية فيما الوقائع أثبتت عكس ذلك. والآخر أن الولايات المتحدة ماضية في قرار الانسحاب من الشرق الأوسط وتسليم سوريا لروسيا.

من ناحية أخرى، حتى إذا عُقد هذا الاجتماع وتوافَق المشاركون فيه وكانت روسيا راغبة حقاً في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، فهذا لا يعني حكماً أنها قادرة على ذلك. المرجح حصوله هو ملهاة أخرى يساير الكل فيها الكل، بل يضحك فيها الكل على الكل ويربح فيها الكل: الروسي يؤكد رغبته في كبح الوجود الإيراني في سوريا، والإيراني يتظاهر بالانصياع، والأميركي والإسرائيلي يرفعان شارة النصر لاستخدامها ورقة رابحة في الانتخابات التي تنتظر كليهما. فيما الواقع على الأرض يبقى مجرد ترتيبات شكلية وإعلامية وحملة علاقات عامة لا تُخرج سوريا من محنتها. أما في إسرائيل التي تعد الجهة الأكثر اهتماما بلجم الوجود الإيراني، قد يحصد بنيامين نتنياهو هذا النجاح النظري بما يساعده في حملته الانتخابية المقبلة على تجاوز صعوبات وعقبات كثيرة أمام فوزه برئاسة الحكومة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإدارة الأميركية مهتمة ببقاء نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية تسهيلاً لمرور صفقة القرن، إذ دونه، هذه التسوية الموعودة لن ترى النور. وما حصل أخيراً في إسرائيل من حلّ للكنيست قد يحمل الولايات المتحدة على تعديل مضمون هذه الصفقة، باتجاه ضمان مكاسب أكثر لإسرائيل علها تسهّل على نتنياهو هضمها.

يراود العديد من المراقبين سؤالان. الأول، لماذا هذا الإصرار الإسرائيلي الأميركي بخاصة والغربي بعامة، على بقاء النظام السوري المنتهية صلاحيته منذ سنوات عدة، وهو بالأساس مغتصب للسلطة وبذمته الملايين بين قتيل وجريح ومفقود ومسجون ونازح ولاجئ؟ لا جواب عن هذا السؤال سوى انعدام أي رؤية جدية واستراتيجية بعيدة المدى لأهداف الدولتين في المنطقة، وعدم اكتراث أخلاقي بمصالح الشعوب وآلامها وهمومها. أما الثاني، هل صحيح أن إيران فرضت أمراً واقعاً من العراق إلى سوريا ولبنان بحيث لم يعد أمام أميركا وإسرائيل سوى التعايش أو التأقلم معه؟

يصعب علينا الاقتناع بأن إسرائيل تجهل حقيقة ما يجري من حولها، لكنها حتى اليوم تبدو مترددة وحائرة فيما تريده. إن انتهازية نتنياهو وبراغماتيته وآلاعيبه على مدى سنوات، فتحت لطهران مسارب كثيرة لتتمدد عبرها في الإقليم وحتى حدود بلاده، إنما من الصعوبة بمكان تصور أن الانتهازية والشغف بالسلطة قد يصلان إلى حد أن تصدق إسرائيل وواشنطن أن روسيا راغبة أو قادرة على لجم إيران في سوريا، ومع ذلك تسيران في هذه المحاولة المجربة. من جهتها، تمعن موسكو في اقتناص الفرص المقدمة لها، وتحاول الإفادة من ضبابية الموقفين الأميركي والإسرائيلي لتعزيز دورها الإقليمي.

أخيراً، لماذا يا ترى سيبحث الاجتماع الثلاثي المرتقب الوجود الإيراني في سوريا فقط وليس في لبنان أيضاً؟ هل لأن الأطراف المشاركة باتت على قناعة بأن لبنان أصبح جزءاً من إيران؟