IMLebanon

استنساخ الوضع اللبناني فرنسياً

 

ماذا ألمّ بفرنسا؟ كيف اندلعت على أرضها كلّ هذه الأحداث وكل هذه الحرائق؟ هل استعارت من بلادنا العربية سيناريو الربيع العربي في بداياته والذي سريعا ما انقلب خريفا وشتاء ورعدا وبرقا وعواصف؟ فرنسا التي حافظت خلال عقود طويلة على علاقات جيدة بالعالم العربي وقضاياه وبشكل خاص، حافظت على «أمومتها الحنونة» وعلى علاقاتها المتميزة بلبنان، وصولا بها إلى علاقات متميزة مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وصولا بها إلى علاقات مماثلة في تميزها مع الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون، حيث كان المحور الأساسي لمؤتمر سيدر، وحيث كان الرئيس المكلف سعد الحريري من خلاله موضع إجماع عربي ودولي أدى إلى تخصيصه بتلك النتائج الإقتصادية الهامة التي أسفر عنها والتي علِقتْ في مطبات التشكيلة الحكومية بعد أن فرملها حزب الله ومن خلفِه إيران، مجمدا الحياة السياسية بكاملها بناء على مواقف إيرانية استراتيجية تتلطى وتتخفى حول مواقع ومصالح لبنانية صرفة تتعارض تماما مع السياسة التي يفرضها حزب الله حاليا على لبنان، الأمر الذي أوقع البلاد بجملة من المواقع والمواقف والإستنهاضات المذهبية والميثاقية شديدة الوقع والخطورة.

نعود إلى التطورات الفرنسية، لقد تفاءل الجميع بفرنسا في ظل رئيس فرنسي جديد يتمتع بروح الشباب والحماسة والرغبة في التغيير بعد سلسلة من التطورات في الداخل الفرنسي كادت أن توصل اليمين المتطرف بزعامة ماري لوبين إلى سدة الحكم، فهرب الشعب الفرنسي بغالبيته الكاسحة من التصويت لها واحتمى بانتخاب ذلك الرئيس الشاب القادم إلى حقل السياسة من دنيا المال والإقتصاد، فكان الخيار الذي اندفعت إليه فرنسا، المتخبطة بتناقضات أحزابها المنقسمة بين يمين ويسار، بكافة أشكالهما وتفرعاتهما وخلافاتهما الحادة. وقد كان الحل بالنتيجة: الرئيس الشاب ماكرون.

وقد مرّ على حكم الرئيس الجديد ما يناهز العامين، ليكتشف الشعب الفرنسي أنه وقع في مطب مزيد من الخطوات السياسية والإجتماعية والإقتصادية، التي لم تنجح حتى الآن في إيصال فرنسا إلى موقع الإستقرار والنمو والإزدهار.

ومع استفحال الأحداث، ها هي التظاهرات وأعمال الاحتجاج وتصرفات الشعب، تلهب باريس ومعظم مدن فرنسا وقراها، بتلك المظاهرات الحادة وشعاراتها القاسية التي تطورت إلى حدود انتقلت فيها من جملة من المطالب الإجتماعية والحياتية والإقتصادية، إلى موقف معاد للرئيس الفرنسي نفسه ولسياسته المتهمة بالإنحياز إلى سياسات الشركات الكبرى وكبار الرأسماليين، إلى درجة أطلقت فيها الفئات المحتجة على الرئيس ماكرون لقب: «رئيس الأغنياء» وفي نهايات كل أسبوع (في أيام السبت بالتحديد)، كانت تنهمر المواقف المناوئة والشعارات المعارضة، في إطار مظاهرات حافلة وحاشدة سواء بالمتظاهرين أم بنسبة التخريب التي ألحقتها بالأماكن العامة والمحلات والحافلات والسيارات، وبدأت تظهر جملة من الأرقام الرسمية المخيفة لها علاقة بمستوى المعيشة والنمو ونسبة البطالة وبالتراجع الإقتصادي والإجتماعي والمعيشي لدى قطاعات واسعة من الفرنسين، وهي مماثلة لكثير من الارقام المعبرة عن حقيقة الأوضاع السياسية والإقتصادية والمعيشية والمالية التي اعتدنا على رؤيتها في لبنان في قطاعاتنا المختلفة والتي تبثّ لدينا قلقا داهما وخوفا شديدا على مستقبل أوضاع هذا البلد الذي لم يعرف كيف يتقي الله في حق نفسه، والذي قُدّر له وعليه أن تمسك بأجزائه المفككة، قوة من قوى هذا العالم التي تسعى قواه الكبرى والوسطى إلى لملمة جراحها وثغراتها وتطور الأوضاع الإقتصادية والحياتية والمعيشية لديها نحو الاسوأ.

وها نحن أمام انحدار هائل في رضى الفرنسيين عن سياسة رئيسهم نتيجة للسياسة الضريبية التي تسود قناعة عامة في فرنسا بأنها تفرض على الفقراء ومتوسطي الحال، أكثر بكثير مما تفرض على الميسورين والشركات الكبرى والبنوك، الأمر الذي دفع بالرئيس الفرنسي إلى تجميد العمل بقانون الضرائب الذي أصدره وتبناه، وعمد في خطابه الأخير الموجه إلى الشعب الفرنسي إلى طرح الموضوع الضرائبي بتوجهات جديدة على الرأي العام وأهل الاختصاص من كل الطبقات توصلا إلى حل ينجي فرنسا من أوضاع مستجدة أطلق وزير الإقتصاد الفرنسي على نتائجها تسمية «الكارثة الإقتصادية»، وكيف لا تكون كذلك والشانزيليزيه، رمز الحياة الفرنسية المتلألئة والمزدهرة يُجْبَرُ على إغلاق مؤسساته ومتاجره الباهرة تجنبا لمزيد من أعمال السرقة والإقتحام والإيذاء والإحراق. كيف لا والكل يعلم، على سبيل القياس ان أحياء وأماكن متميزة للتجارة والسكن والنشاطات العامة قد طاولها الأذى والخراب نتيجة لهول الأحداث التي طاولت فرنسا في الأسابيع الأخيرة، الأمر الذي قد يدفع بها إلى اقرار حالة طوارىء اقتصادية وأمنية واجتماعية، تصلح ما أفسده الدهر والسياسة والخلافات الحزبية والتناطحات الزعاماتية في هذا البلد العريق الذي كانت ثورته الفرنسية عام 1789 ولواحقها، المنطلق لعالم جديد وثورة ثقافية واجتماعية وسياسية متجددة طاولت نتائجها العالم بأسره. ونحن الآن، نرى ما نراه في ذلك البلد الصديق، ونتذكر غيرة ماكرون علينا وعلى نجاح مؤتمر سيدر، وعلى جملة من التصرفات التي لن ينساها اللبنانيون وكان لها أثرها في حفظ سلامة الأوضاع اللبنانية من مزيد من التدهور، بما فيها تلك الأحداث التي تطاول البلاد في العهد السياسي القائم، واذ نقارن ما بين أوضاعنا العامة والأوضاع المستجدة في فرنسا، فاننا نلحظ كثيرا من التشابه المستجد وإن لم يصل إلى حدود هشاشة الأوضاع اللبنانية وخيبتها المستمرة في معالجة قضاياها، الصغير منها والكبير، إلاّ أن الوضع القائم لا يوحي للفرنسيين بالإطمئنان إلى مستقبلهم ولا ينم عن مقارنة مقنعة بين ماض عريق ومزدهر ومتفوق لفرنسا، وحاضر تنفجر أوضاعه على نحو ما نشهد من أحداث ومخاطر.

ولكن… في الوقت الذي نلحظ فيه أن اللبنانيين يزدادون استسلاما لواقعهم الأليم في كل الصعد والميادين، فإن تاريخ الشعب الفرنسي حافل بالإنتفاضات والثورات السياسية والإجتماعية، وهو شعب حي يتعلم من تجاربه ولا يستسلم لعثراته كائنا ما كانت حدتها وشدتها. لنرقب ما هو قائم هناك، ولنتعلم من الشعب الفرنسي، وسائل الرفض للواقع الأليم ومسالك الخروج من أنفاق التراجع المظلمة، ولنكن مع الشعب الفرنسي رافضين في الوقت نفسه لأعمال العنف والحرق والسلب والنهب من قبل أولئك الذين أطلق عليهم الفرنسيون تسمية Les casseurs، ومستمرين في الإيمان بالوسائل الدستورية والقانونية والديمقراطية.